Al-Quds Al-Arabi

سعدي يوسف... الذي أحيا التفاصيل في الشعر العربي

- وهو المشّاءُ ، فلو يحدثُ أن تفتحَ أطلسَ هذا العالمْ، لرأيتَ الخُطُواتِ الحمراءَ لسعدي، وهو يجوبُ أماكنَ لم تُستكشَفْ بعدْ، لرأيتَ مساراتِ النَّسْرِ يُؤالِفُ بينَ القارّاتْ، ورأيتَ على دغَلِ الغابةِ آثارَ النزفْ ٭٭٭ بينَ السيّابِ وسعدي بعضُ صِلاتْ، البصرة

الراية

□ في الوجهين اللذين رســمَتْهما الفنّانــةُ المميَّزة نوال السعدون للشــاعر سعدي يوســف )العام 2018( بصمةٌ خاصة تلوح في الالتفاتة والنظرة والخِلابة الســمراء، لم تتأخر كثيراً، حينما تأخرَ الُمعجبون والمناصِرون للشــاعر فــي أزمته/ أزماته قبــل المرض وبعده، في رســم خطوط النبوءة المخيفة..

يلتفت الوجهان المرســوما­ن في اســتغراب، يقطعهما خطّ أخضر؛ ثم مع نظرة مستريبة يقوّسها خطٌّ أحمر، مرة ثانية. والخطّان ظلّان لمــا تبقّى من ذكرى بلادٍ ممزَّقة، مُرّة المذاق، علقا بلقبي الشاعر الشهيرين )الأخضر بن يوسف والشــيوعي الأخير(. فــإذا بهتَت الذكرى، بقــيَ الأثران، الوجهان المتخايلان، بقوسيهما المتلألئين، يتنقّلان مع رثاءٍ ينســاب متمهلاً من فيديو يصوِّر الشــاعرَ في جولة له في غابةٍ لندنية. الصوت يتصدّع، في الفيديو، كما البلاد، لكن حقيقة الجولة المتمهّلة، تسبق صدى القصيدة التي يلقيها مع وزن الخُطى وابتعاد الظلال. الرثــاء المتصدّع، الوهنُ والأســف، الظلالُ الكثيفة، تكلّل جميعها وحدةَ الشــاعر المريض، كما كلّلــت جُبرانَ في مستشــفى بأمريكا.. وكان الزائر الصديق ميخائيــل نعيمة يُنصِت إلى «الحشــرجة» المعترِضة حَنجرةَ المحتضَر، فيعظِّم صداها كقوس كمانٍ غير منظور..

لكننــا هنا، فــي الوجهين، نُبْصِر الشــاعرَ، ونؤوّل قوســيه الماثلين كعثــرة طريق، وبُعد مزار، على كمان الحشــرجات الصامتة.. يغفر لنا، قبــل أن نغفر لــه أوزاراً، حمّلناها فوق ما احتمل. وليس ذنبَ الشــاعر أنّــه مطرود من رحمتنا، رحمةِ البلاد المنكِرة، وقد أعادتْها نوال الســعدون لتلصقها )الرحمة( بوسمين، أخضر وأحمر، فحسب. وحول ذلك، أو دونه، نظراتٌ لا تكفّ عن الاســتغرا­ب والريبة، مركّزة حول نقطةٍ غائبة في سُمرة البلاد المتصدّعة، البعيدة.

هــل ننتظر القوسَ الأســود، الثالث، لكي يرتســم وجهُ ســعدي يوســف رايةً تغطّــي وجــهَ الأرض التي وطأتها قدماه، وخرج منهــا خالبــاً

مخلوباً؟ أأننتظر الوعدَ الأسود وتنطفئ العينان؟

ويلاه! تلك لحظة الشــعراء وحدهــم، المحمّلين «وِزرَ» التاريخ الأسود.

ليس وِزرَك يا ســعدي، وحــدك؛ فهو وِزرُنــا جميعاً، بأقواسه الثلاث!

وثِق بأنّ الراية لن تنكّس، حــن تختفي الخطوات من الغابة!

محمد خضير )كاتب وقاص عراقي(

ما يعجبني ولا يُعجبني في موضوع سعدي يوسف

□ غريب أمر هذه الأمة، عجيب وضع الكثير من المثقفين العــرب على وجه التحديــد. لعلّ من بين أجمل الأشــياء وأنبلها أن نكتب عمّن قدّموا خدمة في مجال ما، خاصة فيما يهمّنا نحن، أعني حقل الشــعر والأدب والثقافة. أن نكتب عن ســعدي شــاعرا ومثقفا أو ســواه، ليس فضلا بل هو واجب أخلاقي علينا جميعا أن نراعيه، كل حسب اهتمامه واختصاصه وإمكانياته ووقته.

قرأت الكثير وما لــم أطّلعْ عليه أكثر فــي ذمّ ومقاطعة سعدي يوســف والتطاول على آرائه ومواقفه. الهجوم ثم الهجــوم ولا غير. غريب، أمة لا تعرف غير المدح أو الهجاء! كان على من يختلف معه أن يُبيّــن وجهة نظره بناء على تقليد عربي متــوارث : «الاختلاف في أمّتي فضيلة » وليس مثلبة.

معظمنا كانت له علاقة مع سعدي بغضّ النظر عن طولها وقوّتها، فالرجل متواضع وطيب القلب لكنه، على ما يبدو، لم يَجدْ بُدّا من المقامرة بمواجهــة الاحتلال وقُطّاع الطرق في العراق بعد 2003، وأحيانا كان يثير زوبعة هنا وهناك. كان له الحق في أن يقول ما يريد شــأنه في ذلك شــأن كل حر. لكن العقل الإقطاعي، وذاك القضيبي- الأسير لا يمكنــه فهــم حق

إبداء الرأي.

إن كانت لســعدي مثلبة فهي فقط في أسلوب و«شراسة» انتقاده لا غير، وليس فيما كان ينتقده أو يتناوله. أقول:

من النبــل أن يقف واحدُنــا مع الآخر فــي محنته، من دون تنطّع وتطاول وادعــاءات فارغة باجتراح المعجزات وتسقيط فلانٍ والإعلاء من شأن آخر، واستغلال المناسبة لهذا الغرض أو ذاك.

سعدي الشاعر والمثقف الكبير يرقد حاليا في المستشفى وما علينا سوى أن نتمنى له الشفاء العاجل وطول العمر، فحضوره معنــا ضروري جدا لتنقية هــواء المنطقة الذي يزكم الأنوف حتى لو اختلفنا معه. تحية لســعدي حاضرا أو غائبــا، هذا ما قلته لــه في أكثر من مناســبة. عذرا لك سعدي لأنني لم أفِ بوعدي بجلب قنينة الفودكا البولندية التي تنتظر لحظة وصولها إليك منذ أربع سنوات، لأسباب خارجة عن إرادتي. ولن أنسى قولك لي: «أنت لا تحتاج يا هاتف لمن يُقدّم ديوانك» وكان يقصد مقدمة «فراديس أيائل وعساكر»(المدى، 1998.)

لك يا ســعدي الصحة وطول العمر وللشعر العربي أن يقلقَ ويحزن كثيرا.

هاتف جنابي )شاعر ومترجم عراقي(

شكراً سعدي...

□ لقد ســمعت للتوّ من رفيقته الأســتاذة إقبال كاظم أن الشــاعر العراقي الكبير سعدي يوسف يصارع المرض. ســعدي يعد من أعظم الشــعراء المعاصرين الذين كتبوا بالعربية، وهو مع أدونيس ومحمود درويش، أحد عمالقة الشــعر العربي في النصف الثاني من القرن العشــرين. استمدّت ممارسة سعدي الشعرية من العديد من المصادر، من الأغاني الشعبية في جنوب العراق حيث نشأ إلى زهد المعري، ومن الصور الشفافة للشــاعر الصيني لي بو إلى أغاني لوركا العميقة، بالإضافة لارتباط وحوار مستدام مع شعر السياب. نشر سعدي ما يزيد عن 40 مجلداً من الشعر والمقــال الأدبي والقصصــي، وعددا أكبر مــن الترجمات تنوعت من قصائد والت ويتمان الامريكي لروايات نقوقي وا ثينغــو الروائي الكيني. كان لي الشــرف بتقديم أعمال سعدي الشعرية لقراء اللغة الإنجليزية، وعلى مرّ السنين أصبح سعدي صديقًا عزيزًا ومرشدا عميقًا ومضيفًا كريمًا مبهجًا كلما التقيت به.

أتمنى لسعدي الشفاء العاجل وأن أراه قريبا في بيته المتواضع الجميل. ولا يفوتني كغيري ممن قرأوا شعره أن أشــكره على ما أضافه للغتنا وللشــعر العالمي من دقة في التعبير وروعة في الإيقاع، وللحس المرهف الذي صوّر به حياتنا ومعاناتنا، والذي بات أســلوبا شعريا يكرم الفرد والإنســان أين ما كان. شكرا سعدي، قلبي وقلوبنا جمعيا معك. خالد مطاوع )شاعر ومترجم ليبي(

رسالة إلى الأخضر بن يوسف... رغم مشاغله

العزيز سعدي، أعرف، من خلال العزيزة إقبال، أنّك في وضع صعب، وأنّ نفســك الشاعرة، هي فقط، ما تقاوم به الغياب. فأنت لم تعش حياة، بل عشت حيوات، بكل ما فيها من أفراح وجراح، لم تستســلم لنزوات السلطة، ولا لإغراءاتها، اكتفيت بالشــعر كخيار وحيد في وجودك، ما كتبته من روايات، لم يكن مهما عندك، إلا بقدر ما هي الشعر لا بســا ثوب الحكي. لم أكلمك، كما تعودنا أن نتقاسم ما جمعنا من قلق، ورغبة في السؤال، فأنت لست في البيت، إقبال وحدها ترد على سؤال الأصدقاء والمحبين، وكم كانت إقبال متأثرة بما أنت فيه من حرج، وكانت تتكلم عنك بما عرفناه عنك من كرم وسعة روح. الشاعر، يا صديقي، لا يؤمن بالألم، لأنه يستدرجه، ويعتبره جزءا من حبره الذي به كتب كل أشعاره. مهمــا تكــن الأســباب، فالأخضر بن يوســف له مشــاغله، حتى وهــو طريح الألم، ونحن، ســعدي، على وعدنا، أن نحفر في مجرى الشعر عينا، كلما بدا لنا أن المجرى استقر على سطح ما لا يبرحه. فــي انتظار

ســماعك وأنت تســأل، وتتقصــى، ويشــغلك أن تعرف ما يجري من شــعر في المغــرب، فأنا، مثــل العزيزين من الأصدقاء الخلص، ســأكون رهن محبتــك وصداقتك، كما كنــا دائما، بما تميزت به من تواضع وحس إنســاني كبير وعظيم.

صلاح بوسريف )شاعر وناقد مغربي(

إلا فلسطين

□ الشاعر الكبير سعدي يوسف في حال صحية حرجة. تناقضــات أمة بكاملهــا، إن كان هناك أمــة اصلا، هذا الرجــل. وفي أعوامــه القليلة الماضية انفجــر وتفتّت كما تفتّتــت الأمة ذاتها. لكن فلســطين ظلّتْ من بين الأشــياء القليلة الموحدة في كيانه. اشــتبك مع كلّ شــيء، اشتبك مع ذاته، واشــتبك حتى مع عراقه، لكنه لم يشتبك أبدا مع فلسطين. فلسطين ترفع يديها بالدعاء لسعدي يوسف.

زكريا محمد )شاعر فلسطيني(

إلى سعدي يوسف وهو يُصارع المرض

□ من مِعطفِ سعدي، يخرجُ شعراءٌ، ورِوائيّونَ، وبحّارةْ ٭ ٭٭ ٭ ٭٭ عبد الله سرمد الجميل )شاعر عراقي(

كلّ الأغاني انتهت إلا أغاني الناس!

ســاماً لشيخ الشــعراء سعدي يوســف وهو يصارع وحشي المرض والشيخوخة

وأحيّي، بمحبّــة كبيرةٍ، مــرورَ المتجــوّل الأخضر في الأرض واللغة والأسلوب. الشاعر الذي يسير واثقاً ترفعه فــرادة التجربة ومهارة النحلة؛ فقد ظلّ على مدى تســعة عقــود يجمع لنا رحيق الشِــعر أينما وجــده. وأنّي أميلُ، بشكلٍ خاصّ، إلى أغلب شعره المتأخّر وأثني عليه.

الجمال لا يموت. قد ينزع المصيرُ عن روح الشــاعر عناءَ الوجود الفيزيائي إلا أنهُّ يظلّ يُحلّق في زمنه الخاص مثل طائر !

٭٭٭

جاءت إليّ يمامتانِ وحطّتا فوق الوسادة في الصباح... وقالتا: سنكون، يا سعدي ، جناحيكَ ! انتبهْ!

ظلال الشاعر الألماني ريلكه في فيلم الأخضر بن يوسف

□ هنــا - أقصد في فيلم الأخضر بن يوســف - ليس النور معتدا بذاته ولا الأشجار واثقة من عريها

هنــا الغابة تجل لحاجتنــا الغامضة إلــى الهروب إلى الشعر.

ليــس بمعنى التيــه بقدر ما هــي انفتاح على أســئلة الكينونــة وعلــى مســاراتها المنفلتة وخرائطهــا الضالة واحتفــاء أيضــا بالمنبثق فجــأة، بجماليــة الاقتناص، وشعرية الجري وراء المبعثر.

يعجبنــي كثيــرًا الشــاعر الألماني ريلكه حــن يقول إن الأعمــال الفنية تنبــع دائماً من أنــاس واجهوا الخطر، ووصلوا إلى النهاية القصــوى للتجربة، وصلوا إلى نقطة لا يستطيع أي كائن إنســاني أن يتجاوزها، وكلما ازدادت جرأة الإنســان على التوغــل، كلما أصبحــت الحياة أكثر جدارة للاحترام وأكثر ذاتية وأكثر تفــرّداً. فالفيلم يصور بلغة الظل والضوء وشعرية الصورة كتابة سعدي يوسف كما حياتــه كقوة نابعة من الخطر كمــا الرعد والبرق وفي نفــس الآن هي كرغبــة متجددة للتحرر من أســر الوجود وابتكار صيغة خاصة ومغايرة في خضم مغامرة البحث في العزلة والفوضى والسديم إلى درجة يمكن القول إن الفيلم يروم إعادة تشــكيل الكون الجمالي لســعدي يوسف من خلال هذه المفردات ويراهن على اختراق المتاهة كتجلٍّ لقوة الحياة وإرادة الشــاعر، وعلى تفكيك بعض المفاهيم التي شكلت ثوابت الذائقة الجمالية العربية الكلاسيكية؛ مفاهيم مثل المنفى' و'الحنين' و'الوطن' و'الغربة' و'الموت' و'الكتابة'...

من يشاهد هذا الشــريط لجودي الكناني وباسل علي عمران يخرج بقناعة مفادها أنه ليس في النهر شقاء الماء، ليــس في الماء صمت الوجود، ليس في الغابة معنى واحدا لأغنية العصافير وليس في الشجرة ظل حطاب. في النهر بعض النهر، في الماء لون الماء، في الغابة وحشــة وذئاب وفي الشجرة سناجب وبوم. فلنظل إذن يقظين وغامضين في عالم لا يفضي إلا لعري الوجود. فثمة دائما عشب مثقل بالندى ونهر في عمق تيه الوجود يصونان دهشتنا كزوّار في هذه الحياة الغريبة، ويأبيان أن يصير وجودنا وجود غفل علــى هذه الأرض. هــذا النهر الذي يحــول الوجود داخــل المتاهة إلى ابتــكار للحاضر واختبــار قدرتنا على إمكانيــة المغامرة في المجهول والاختــاف، والانفلات من مكر التشــابه والتطابق حيث يتآلف مــن العقل والعاطفة والخيال والأسلوب وتزداد نسبة عذوبته بقدر خيانة الماء للضفاف. لكن يا سعدي كيف يخون الماء الضفاف؟ هل السر في تدرج الزرقة على الشجر عند الفجر أم في لون الغيم على ورقة السنديان؟

رشيد منسوم )شاعر مغربي(

عليه السلام

□ سعدي يوسف ابتســم حين رآني صباح اليوم واقفاً في باب غرفته في المستشــفى ورفع يديه مرحباً، جلســت عنده ثلاث ســاعات فوجدته قوياً متماسكاً يدرك وضعه الصحي ويعيه جيّداً ويتقبله بشجاعة ورضا، ذاكرته كما عهدتها حاضرة سريعة ومتوقدة.

حدثني عن اللغة والشعر وعن أسلوبه في بناء عبارته الأدبية، وحدثنــي عن دور الإمام علي وأثــره العظيم في اللغة العربية.

ســألني عن بعض الأشــخاص يطمئن عليهم، وأخبر الممرضــة «الرومانية الأصل» عن بعــض الأدباء من أبناء جلدتهــا وذكــر أســماءهم وبعــض أعمالهم فأدهشــني وأدهشها.

تحدث عن العراق بألم وحرقة وشعور بخسارة عظيمة وإحســاس بفقد عظيم للوطن، لكنه مع كل ما تقدم ضحك حين داعبته ومازحته....

أبلغته ســام من حملوني السلام عليه ففرح بها وبهم وأبلغني سلامه لهم.

حسان الحديثي )كاتب وناقد عراقي(

 ??  ?? □

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom