Al-Quds Al-Arabi

القاص المصري رضا البهات في «حكايات شتوية»: جماليات العادي والبسيط وتذويب التناقض

- عادل ضرغام

تتمثل خصوصية فـن القصة القصيرة فـي الكثافة مـن خلال الطرح الفكري، والاكتناز اللغوي، فالأفكار الكبرى تظهر أكثر إشراقا حــن تــعــرض فــي إطــــار مقطب مــشــدود. فهناك أنـــواع كتابية قصيرة تستطيع أن تقدم وتقول كل ما نريد قوله في إطار الفنون القائمة على الترتيب والتنظيم بمـداهـا الطويل، لـدرجـة تجعلنا نتعجب من الكثير الـذي يمكن أن يقوله الكاتب في كلمات بسيطة.

وهذا قد يشدنا إلى أنماط القصة القصيرة العديدة بداية من النمط الكاشف عن البداية الخاصة بالفن القصصي الذي لا يقيم وزنا للفارق بـن الــروايــ­ة والقصة القصيرة، ومـــرورا بالنمط التقليدي الـذي أسدل فارقا واضحا بين الرواية والقصة القصيرة، وانتهاء بالنمط الأخير القصة القصيرة جدا، و ما بعدها القصة الومضة التي تحدث تــداخــا كاشفا عــن الهجنة، لا ينتهي بين جنسي القصة القصيرة وقـصـيـدة النثر نـظـرا للكثافة، والارتـــب­ـــاط بالثبات والسكون وغياب الحركة والتتابع الكاشفين عن الحضور السردي.

في مجموعة «حكايات شتوية» للكاتب رضا البهّات هناك اتكاء على فكرة الجزئية بوصفها المكوّن الأسـاس للقصة القصيرة، فلهذه السمة الحضور الفاعل بعيدا عن مساحة التجلي الكتابي الأولـي فـي الأدب العربي، حيث توجد هناك مساحة مـن الـتـداخـل بين القصة القصيرة والرواية، ويشكل مصطلح الـقـصـة إطــــارا جامعا فـي تلك اللحظة، وكـانـت فكرة التلخيص- ربما لسطوة البدايةحاض­رة فيطالع المتلقي قصصا قصيرة تقدم حياة ممتدة كاملة كما في كتابات الرواد في هذا الفن.

قصص المجموعة لا تزيد كل واحدة منها عن صفحة أو صفحة ونصف، ولا تتولد قيمتها - كما هو متوقع - من عنصر المفارقة التي تجعلنا نعيد قراءة النص مرة بعد مرة لكي نصل إلى دلالـة لها مشروعية. فالنصوص القصصية تتولّد قيمتها من الحياة وتقلباتها وتعدد صورها ومناحيها، خاصة إذا كان الاهتمام مرتبطا بالمهمشين وبمـنـكـوب­ـي الـعـالـم بأصنافهم الـعـديـدة، هــؤلاء الـذيـن يعيشون حياتهم فــي تسلسل ثــابــت، لا يوجعهم الألم لأنهم تعودوا عليه، ربمـا يلفت أنظارهم وجــود قلب

رحيم أو عقل يشاركهم المأساة, فيوقنون في هذه اللحظة أن للحياة جانبا يختلف عما تعودوا عليه. هي حكايات جزئية ليست مغلفة بدبيب النهاية أو مرشدات الانتهاء والإغـــاق المرتبطين بالنصوص الكلاسيكية في هذا الفن من حيث تمحورها حول بداية وعقدة وحل، ولكن هـذه النصوص تكتفي أن تقدم لك جانبا من الحياة أو جزءا دافقا غير منته، فهو دائم التكرار للمراقبة والملاحظة. ففي قصص المجـمـوعـ­ة هـنـاك إلمـــاح دائـــم إلى فاعلية الأنساق الممتدة من تراثنا القديم، كما يمكن أن نرى في قصة «عيون الجنة»، فسطوة المـوروث حاضرة في سلوك الأم، وحاضرة في يقين الطبيب بالرغم من المغايرة الفكرية والثقافية.

معظم اللقطات أو الأحـــداث التي توقف أمامها الكاتب في «حكايات شتوية» لقطات معروفة، ويدركها الجميع، ولكن صناعة الفن من خلال هذا المدرك البسيط الــذي يعرفه ويشعر بـه الجميع تصبح عملية صعبة وأكثر تعقيدا، لأن الكاتب مطالب أن يخرج هذا البسيط مـن عـاديـتـه، ويشحنه بالدهشة، ويشعر القارئ - في الوقت ذاته - وكأنه يتلقاه للمرة الأولـى. ووسيلة رضا البهّات في شحن وإعـادة تدوير هذا العادي البسيط تستند إلى شيئين: الأول منهما يتمثل في كونه لا يقدم هذا الموقف أو الحدث العادي البسيط عــاريــا مــن تجـــاوبــ­ـات مــوازيــة، وبمعنى آخـر لا يقدمه في نواته المجهرية الأولــى. ويرتبط السند الثاني بالأول ارتباطا وثيقا، ففي انـفـتـاح الحـكـايـة المجـهـريـ­ة على التجاوبات الموازية تنفتح الدلالة وتتوالد دلالات تظل حاضرة، وإن لم تجد مرشدات واضحة للتحقق والتجلي بشكل صريح، ولكنها تستمر تطل برأسها أثناء القراءة.

ففي قصة «عيار سكر» يتمثل الحـــدث المقتطع فــي أم منهكة تجلس لتنقية الأرز، بينما ابنتها تغازل مرآتها باستبدال ملابسها في غرفتها. وهو حدث عادي يمرّ به قطاع عريض من البشر، ولكن الدلالة المتجاوبة تتمثل في الولد القادم للحصول على عيار سكروهو اختيار لا يخلو من دلالة- في مقابل القسيم الآخر «البنت على مشارف البلوغ». فالقصة من خلال الاتــكــا­ء على المـوقـف أو الحـدث العادي تتعاظم عليه لإدخاله في إطــار دلالــي خـاص يفقده هويته الأولـى البسيطة القديمة، لتشكل له وجودا مغايرا يحاول أن يؤسس جـــذوره، خاصة إذا كانت فكرة الانتظار من الفتاة أو المــرأة تطل حاضرة في قصص المجموعة على نحو ما نرى في هذه القصة، أو في قصة «يوم الخبيز.»

هذا التوجه في الكتابة في التقاط هذه الانقطاعات كتابة مقتصدة مصفاة مـرة بعد مـرة، ولهذا هي تعتمد - لحركة التجاوبات - مع كل حادثة على الإيحاء والغموض الـشـفـيـف والإبـــهـ­ــام فــي بعض الأحـيـان. فهذه الكتابة لا تصرح مطلقا وإنمــا تترك كل قــارئ في مواجهة النص دون توجيه. فمن آليات الكتابة في تلك المجموعة الاتـكـاء على بــراح الإيـحـاء الذي يحرّك مخيلة القارئ، ويتمّ التجهيز والإعـــدا­د له برهافة دون إشـارة واضـحـة أو فاضحة بالظهور، وإنمـا يحدث تثوير للنص بشيء مـن الـتـدرج للوصول إلــى فضاء دلالات متحركة سابحة. فمساحة الاشتغال في هذه المجموعة - أو قيمة الاشتغال الفني - تتشكل في فضاء الريب الـذي يتولّد من الــدلالات المرتبطة بالإيحاء، فهي دلالات ليست معصومة باليقين، ولكنها منفتحة على براح الإيحاء.

فالغموض الشفيف المرتبط بالإيحاء استراتيجية أساسية في كتابة البهّات في هذه المجموعة، فهو في كتابته لا يصرح مطلقا، وإنمـا يستخدم من الحيل الفنية التي تجعل القصة تتخلّق تدريجيا داخـــل الــقــارئ بالكثافة ذاتـهـا، وبـإيـحـاء­اتـهـا الـتـي لا تكف عن الظهور مسترشدة برمز يتكرّر بشكل لافت في القصة. في قصة «نقش الخمسين» نجد أن هناك تـوازيـا بين قمع الجسد الأنثوي الــذي يفقد سلطته بالتدريج من خــال تسليم المـــرأة الـتـي بلغت الخمسين نفسها للرقص، وللحناء. ففشل المحــاولا­ت الخاصة بإزالة الحناء، داخـل سياق مـوت يعقد توازيا مع الفشل في قمع الجسد الأنــثــو­ي لامـــرأة فــي الخمسين، وكأنهما فعلان يحملان استجابة للحياة ومعاينتها مــن منظور مختلف، فبعد فشل إزالـة الحناء تقول المرأة «ده حال الدنيا. الحزن في القلب» تقول هذه العبارة لمن تلقاها من النساء، بينما ترعش اكتنازاتها تحت الثوب، وعلى يديها وقدميها النقوش الزاهية لا تزال.

كـتـابـة رضـــا الــبــهّــات ترتبط بالإنسان وباحتياجات­ه الأساسية وتساؤلات وجوده المستمرة التي تنبع من اتساع مساحة التناقض التي يحاول أن يقرّب بينها وفق منطق الحياة وقانونها الخاص. في قصته «معطف قديم» يؤسس الإيحاء مرتكزاته من خلال الحركة الدائبة بـن الحـضـور والغياب، حضور الحصان بعنفوانه، وغياب

صاحب المعطف، وكـأن الاحتماء به وسيلة من وسائل استجلاب الدفء في برد قارس.

في بعض الأحيان يشعر القارئ أن الإيحاء يصل إلى الإغلاق الدلالي أو يستنيم إلى عقد مشابهة جزئية بسيطة لبناء رمز لا يمكن أن يكون هناك يقين بوجوده أو يقين بعدم وجــوده. ففي قصة «شجرة على الرصيف» تؤسس القصة وجودها فـي ظـل وجــود حالة مـن حـالات التماهي بين الشجرة التي تقاوم العاصفة والريح، وبين ظل كائنين يمكن أن يكون بالفعل هو المتشكل أمام حدقة المبدع لحظة الكتابة في ظل الضوء الخافت للمنزل الذي يقف أمـامـه. فالصفات المسدلة على الشجرة تباين الوجود المادي لها، وتستدعي الوجود الإنساني لكائنين يتداخلان ويفترقان.

فــي هـــذه الـقـصـص لا يعرض الكاتب الموقف الجزئي في لحظة انفعال أو غضب أو إشـــارة إلى قيمة هذا الموقف وتأثيره في تغيير سلوك البطل بوصفه موقفا فارقا بين مقاربة سابقة للعالم ومقاربة تالية أو آنية، وإنمــا يعرضه من موقع المتأمل الــذي لا يستغرب حدوثه، فقد أصبح هذا الموقف أو الحدث - من خلال التكرار وتعوّد الهزيمة أمام سلطة أكبر- موقفا أو حدثا عاديا، لا يستوجب وقفة لمراقبة غرابته واستظهار دهشة ما تجاهه، يستوجب فقط عرضه

وتقديمه دون تهليل أو عواء.

ولـكـن فــي معظم القصصحتى فــي القصص الـتـي يكون فيها الـــراوي داخــل حيز الحدث والــرصــد- يظل الـتـبـرم غائبا، وتظل القدرة على الفاعلية والتأثير محدودة، ويبقى رد الفعل هادئا مكتفيا بعرض الحدث دون إيماءة أو إظــهــار وجـهـة الـنـظـر بشكل مباشر. هذا يعود في جانب كبير من القصص إلى أن معظم القصص مـواقـف وأحـــداث تعاظمت على النسيان، وظلت موجودة، فالكاتب فـي هــذه القصص لا يقدم وعيا آنيا لحظيا، وإنما يقاربها انطلاقا مــن وعـــي مـغـايـر، وعـــي متأخر عن الحــدث، ولهذا نجد أن فكرة المقاومة أو الـنـزال غير حاضرة لأننا أمـام وعي كتابي ينطلق من موقعية التأمل لا موقعية المعاينة أو المعايشة للتجربة، ومــن ثم يجيء عرض الحدث دون هفوة أو شبهة إبداء الرأي أو وجهة النظر أو محاولة التعاظم على الواقع. فهي أحداث تبدو- لمنطق السكون أو التسليم- عادية فيها تذويب جزئي للتناقضات من خلال الرضا الساكن.

إن تذويب التناقض في بعض قصص المجموعة يرتبط بطبيعة الشخصية المـصـريـة وانتقالها من النقيض إلى مقابله، فغضبها الشديد غضب لحظي. ففي قصة «غـضـب الــرجــال» نـــدرك أن هذا الــصــراع الـــذي وصــل إلــى أعلى درجاته بين الرجل وزوجته بداية الـيـوم تحــوّل فـي نهايته - ربما

لتوحد مصير كليهما - إلى الرضا المملوء بالنشوة، فلحظات الغضب ليس لها جـذور تطمس المحبة أو الاحتياج، والمحبة الآنية لا تطمس فوران الغضب في لحظات محددة. القصة لا تـؤسـس التناقض أو الحركة من النقيض إلى النقيض وإنمــا تعرضه بشكل موضوعي دون إشــارة أو انحياز، تعرضه بوصفه صيغة توفيقية معبرة كاشفة عـن الشخصية المصرية التي تتحرك من أعلى ذروة الغضب إلى شاطئ الراحة والسكون، ربما بسبب الضغوط الداخلية غير المرئية بشكل مباشر وجلي.

ثمة جزئية فنية أخيرة لإسدال هذا التذويب الخاص بالتناقض، تتمثل في غياب الإحساس بالنهاية وكـراهـيـة الإغــــاق، ففي معظم قصص المجموعة هناك غياب كامل لفكرة النهاية، فالقصص كلها نتوءات منفصلة لا نهاية لها، فكلها قصص تعرض موقفا أو حدثا بسيطا، وفي ظل كتابة موضوعية تبتعد عـن التنبؤ بالنهاية نظرا لطبيعتها الـراصـدة دون تدخل، نجد الحدث أو الموقف يظل حاضرا هكذا على وميضه اللامع المجروح بالنقصان دون توجيه أو تقديم وجهة نظر، ويكفل للقارئ من خلال الإيمــاءا­ت المساحة الكاملة للحركة وتوقع الحدث الذي يظل محذوفا من النص.

ففي قصتي «ابنتي» و«ابني» هـنـاك إدخـــال لـلـقـارئ فـي إطـار الحـدث دون تقديم أي مؤشرات لإغلاق الحدث أو انتهاء الحكاية، فكل حكاية منهما تكتفي بوضعك داخل الحالة، فالقارئ بعد قراءة قصة «ابني» وبعد الإيحاء بالموت القادم يواجه النص في حالة تأهب لإكمال القصة أو توقع النهاية دون فـرض نهاية محددة عليه. القصة لا تشير إلى نهاية أو دلالة قريبة، فهناك غبش في الكشف عن الفحوى من خلال التعدد، تتمثل في الكشف عن الحـب ودافعيته في التعاظم على العلم ومعرفته، أم في قيمة نظرة المجتمع للعلم والأخذ به، وهل إذا أخذ به هل سيستجيب لـهـديـه ومـنـجـزات­ـه أم لا. فهذا التعدد يؤدي إلى كراهية الإغلاق والانتهاء، وإلى إضفاء مزيد من الغموض، ووقوف القصة القصيرة عند حدود الجزئي الناقص الذي يتعاظم على هذه الجزئية وعلى هذا النقصان من خلال نقل الحالة بثقلها الحياتي المنزوع من اكتمال لـه منطقه فـي التجلي والحركة والحدوث. رضا البهات: «حكايات شتوية» دار بدائل، القاهرة 2018

159 صفحة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom