Al-Quds Al-Arabi

الاستثناء العادي في الجزائر

- ٭ كاتب وأكاديمي جزائري

■ الجزائر بلد الاســتثنا­ء الذي يجب التعود عليه، فإذا كان الاستثناء لا يقاس عليه لأنه شاذ، فإن الشذوذ في الحالــة الجزائرية يندرج في ســيرورة التكيف معه كأمر عادي.

ولعلّ أول القواعد الشــاذة هي حكم العسكر، الذي لّما يزل ســائدا، بعد أكثر من نصف قرن من الاســتقلا­ل، بل تغوّلــت وتورّمت مصالح الأمن على تنوعها وأشــكالها، لكــي يكون لها هــي أيضــا نصيبها في الحكــم، وليس بالضرورة حفظ الأمــن والآداب العامة، لأن الجريمة في تزايد مذهل ومفزع، الأمــر الذي يؤكد أننا فعلا دخلنا في منطق التعود على الجريمــة، كأمر عادي ويجب التكيف معها كمتلازم ومتوال لمظاهر الجزائر الجديدة.

ما يدفع إلــى الاســتغرا­ب والعجب،أنالتقرير، الذي قدّمــه مدير الشــرطة القضائية في شــهر يناير/ كانون الثاني، الماضي حول حصيلة الجرائم المقترفة عام 2020، والتي تــورط فيهــا 246200 فرد، أي قرابــة ربع مليون شــخص. هذا التقرير لم يجر التعليق عليه، ولا الالتفات إليه، لأنه في رأي الســلطات من الأشياء العادية، التي لا تدفع إلى القلق، على اعتبارأنال­جســد الاجتماعي تعوّد على التواصل والتعاطي وســماع الجرائم على اختلافها واختلاف أشــكالها، وأن ما يحظى بالانتباه، ويستحق الوقــوف عنــده، هو ذلــك التي يبــدع فيهــا المجرمون ويتفننون فــي عمليــات القتل والاغتصاب والســرقة. الجريمــة عادية جــدا، ولكــن الموضوع كلــه هو كيف للجميعأنيت­عَوَّد على ذلك، مع التوكيد الدائم علىأنسوف ترتفع العام المقبل، لأن نســبة الجريمــة ارتفعت ارتفاعا كبيرا عن العام الماضي.

ففي جرائم المخــدرات فقط، قُدِّر، كما جــاء في تقرير المدير المركزي للشــرطة القضائية بحوالي 46047 قضية، مســت أكثر من نصف مليون فرد، وهو العدد نفسه الذي يتأهب إلى الدخول إلى مسابقة الدكتوراه، وهو نوع من الجرم في حق العلم والبحــث الأكاديمي، الذي لا يعاقب عليها القانون، باعتباره من السياســة العشوائية التي اعتمدها النظــام، ما يرســخأنال­جريمة احتلت موضعها ومكانتها في المجتمــع، ناهيك منأنالدولـ­ـة ذاتها صارت قاتلة، أي تقتل كل من يســعى إلى مشاركتها الحكم حتى من داخل النظام ذاته. الحقيقةأنا­لأرقام ونوعية الجرائم التي يتعــوّد عليها المجتمع ما هي فــي نهاية التحليل إلا انعكاس شــرطي لما هو عليــه النظام، الــذي يفلت هو نفسه من العقاب، ولا يلتفت إلى ضرورة تجديد وتغيير ومحاسبة الذين فشــلوا في التسيير والإدارة والمتابعة. فقد انتــاب التهاون والتراخي والإفلات من المســؤولي­ة كل الأجهزة، وتحولت المحاكــم القضائية وعنابر وأقبية السجون وأروقتها إلى أماكن يمكنأنيرتا­دها الجميع، على اعتبارأنال­قاعدة صارت مقلوبــة أي: الجميع مُدان حتى تثبت براءته، على ما نسمع ونشاهد في حياتنا اليومية. الجميع عَيْنه وسَــمعه على أخبــار الجرائم والاعتقالا­ت والإفراجات والتســريح­ات والاعتصاما­ت والإضرابات والاحتجاجا­ت... تلــك هي المادة الأوليــة التي يتابعها ويتعاطي معها المجتمع.

غيــاب الرئيس بمثابة غياب الأب، بــكل معنى الكلمة وما تحمله من جوانب نفسية أخلاقية وعملية وتربوية. الضرر واقع بالفعل ومضاعفاته وتداعياته على الأســرة الصغيرة والمجتمــع حاصل لا محالة. وعليــه، فإن أكثر من عقد من زمن غياب الرئيس هو بمثابة ترسيخ الفعل، أو الأثــر الذي لا يمكنأنيمحى إلا عبر إنجاز في مســتوى الجماهير الكبــرى، التي ترتقي إلى المبــادرة التاريخية وتعانق مصير ومسار الأمة نحو خلاصها النهائي: تحرير الدولة مع المجتمع من أسر السلطة السياسية والعسكرية والأمنية، على ما جاء في تقرير صحيفة «الإيكونومس­ت» حيث صنفت الجزائر ضمن الأنظمة الســلطوية البعيدة عــن خانة الأنظمة الديمقراطي­ة. كاشــفة دائما عن وضع متزايد فــي التدني الاقتصادي والسياســي والأخلاقي. فقد صنفت عام 2006 ضمن الدول الهجينة، أي التي تلَوِّح بالديمقراط­ية، بينما هي سالكة طريق السلطوية، ونزعة «الكل الأمني» على مــا آل إليه الوضع العــام طيلة عهد الرئيس المقعد ومؤسس نظام العصابة وما بعده. الوضع الذي صارت إليــه الجزائر هو من نوع الفســاد الذي لا راد له إلا بحياة ديمقراطية ونزاهة ممثلي الشــعب، وإلا واصلنا سيرورة التكيف مع الشاذ واستمراء الاستثناء، الذي يبعدنا فــي مرحلة لاحقة عن مجتمــع العقلاء، أو نصبــح «مجتمع الخطــر » الذي لا يمكــن التواصل معه، على ما بدأنا نشعر به منذ سنوات، على اعتبارأنال­جزائر تغيب فيهــا ثقافة ضيافــة الأجنبي، وعــدم قدرته على الاستثمار فيها، في الوقت الذي الكل يطلب فيه الخروج ولو»حارقا». نعــم هي حقيقة مرة، لكنهــا قائمة ويجب عدم الافتئات عليها، لأننا في آخر النفق الذي لا يعطي أي بصيص من الأمل.

مناســبة هذا المقال هــو الأرقام والمعطيــا­ت المفزعة والمرعبــة التــي قدمها مديــر الشــرطة القضائية حول الجرائم التــي اقترفت في الجزائر عــام 2020. فالقراءة السوســيول­وجية لما جاء فــي التقرير تؤشــر إلى يقين راســخ وصلنا إليــه، وهوأنالجزا­ئر بلــد الجريمة، بكل معنى الكلمة، أي كل الجزائريين يقترفون الجرائم بوعي

أو بــدون وعــي، أي حتى وهم لا يشــعرون، فالذي لــم يرتكب الجــرم فهــو يفكر فيــه، والذي لم يدخل الســجن فهو في حالة انتظار في أروقة المحاكم وجلســات القضاء. فما تؤكده الحيــاة اليوميــة للجزائريين، هو التفكيــر في الجريمة على أصنافها، وحســب الموقع الذي يوجد فيه، بداية من المؤسســات البنكية إلى المؤسسات الدينية. كل المجالات اســتبيحت من أجل الاســتثما­ر في الجريمة. لا يبدو أننا في الجزائر وصلنا إلى صعيد يمكنأننراج­ع فيه أوضاعنا بالإصلاح والتقييم، وبالنقد البنَّاء الذي يقوم به الجميع في مواجهة الجميع، بل الوضع القائم دائماأنحكم القبضة العســكرية يجبأنيســو­د ويغلب في البدايــة والنهاية والســياق، أي سياســة «الكل الأمني». وهذا ما يفســد المعادلة من أصلها وتصبح سياســة الهــروب إلى الأمام هي ديدن النظام القائم الذي يســمح لــه بجر البلد كله إلى الهاوية، لأن جريمة انهيار الجزائر كبلد يمكنأنيستر ويخفي المجرمين الحقيقيين الذين يديرون البلد من وراء الســتار، بل في وضح النهار بعد ما كشــفهم الحَرَاك في الميادين العامة وقنوات اليوتيوب. والجرائم التي تمس المؤسســة، لا يعاقب أصحابها إلا نوع من العقوبة التي لا تعني إطلاقا السجن وفقدان الحقوق المدنية والسياسية، بل امتيــازات خاصة لا يلبث هــم وذووهمأنيع­ودوا إلى الوضع الذي كانوا عليه قبل غضب الجماهير عليهم، على ما نلحظ في قيادة الأركان الســابقة والقائمة التي عبثت ولا تزال بمصير الدولة، لأنها موجودة فوق الدولة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom