Al-Quds Al-Arabi

الدكتورة سارة محاميد «طبيبة أم الفحم الأولى» تروي لـ «القدس العربي» مسيرة امرأة فلسطينية مناضلة

-

شهر عسل ورحلة للجامعة

■ بســبب أجواء البيت ولباقة الوالــدة التي عملت ربــة بيــت حنونة وحديــث الوالــد الدائم عــن العلم والتعليم كانت ســارة الطفلة تسأله دوما: لماذا المعلمات والممرضات كافتهــن من خارج أم الفحــم، فكان والدي يقــول متوددا بلغتــه العامية: «إذا بدك كل شــي ممكن يصير عنــا» أدركت وأنا في الصف الأول أنني ســأتعلم وأن لــي داعما. وتضيف «كان هذا حلم الطفولة أن أكون طبيبة فصار يناديني دكتورة ســارة وأنا في الابتدائية وتبعته كل العائلة، كجزء من تشــجيعي لدراسة الطبّ وهذا ما حصل. في البداية درســت التمريض في جامعة القدس ولم أتمكن من دراســة الطب في البلاد فاغتنمت فرصة حصولي على منحة من الحزب الشيوعي ودرست وزوجي الدكتور زياد محاميد في ليننغراد ومكثنا هناك سبع سنوات. تزوجنا وسافرنا بعد أيام قليلة.»

وردا على سؤال تقول «نعم كان زواجي قبل السفر قد سهّل علي الســفر لخارج البلاد فنحن عشنا في مجتمع محافظ ولــم يكن مألوفا وقتها بعكس اليوم أن تســافر البنات للخارج لوحدهن حتى من أجل اكتســاب العلم. تزوجت في الثالثة والعشــرين من عمــري من الدكتور زياد محاميد ابن مدينتي فحققنا هدفين بسفرة واحدة إذ كان هذا شهر عسل وبداية التحاق في الجامعة.»

ثراء ليننغراد

وتنــوه أن تعلمها فــي ليننغراد التي تتحاشــى ذكر تســميتها الجديــدة / الأصلية ســان بطرســبورغ قد

شــكلّت فترة جميلة جدا ووجدت فيهــا فرصة للتعّرف على الثقافات والشــعوب من كل قارات الدنيا. وعن ذلك تستعيد ذكريات ســوفييتية « هناك أول مرة في حياتي شــاهدت عرضا أوبراليا في دار الأوبرا وقد ســحرتني. شاهدت مســرحية «فاوت» عن قصة طبيب يبيع روحه للشــيطان وهــذه قصة شــعبية ألمانيــة.. وهي عرض أوبرالي ومســرحي أيضا. من وقتها صرنا نزور القاهرة ونشــارك في فعاليات أوبــرا عايدة داخــل دار الأوبرا المصرية. وحتى اليوم استمتع بأعمال الأوبرا.»

وما زالت الدكتورة ســارة تحتفــظ بصداقات حتى اليوم مــع زميلات أصبحن طبيبات في اليونان وقبرص وســوريا والســويد ومصــر وكردســتان، خاصة أن التكنولوجي­ا اليوم ســهلتّ التواصــل. وتتابع «عندي صديقة طبيبة ســورية الأصل تقيم في السويد اليوم ما زلنا على علاقة وثيقة واتبادل معها اتصالات هاتفية.»

كذلك تستذكر أن ليننغراد مدينة ثقافة غنية بمتاحفها ومسارحها وما زالت تّحن لها وتحاول إطفاء هذا الحنين بزيارتها عدة مرات، منوهة أنها حرصت على زيارة كلية الطب ومساكن الطلبة حيثما سكنت وزياد قبل أن تعود لوطنها طبيبة عام 1990.

الطب والمطالعة والرسالة الاجتماعية

تعمل الدكتورة ســارة طبيبة عائلة منذ 28 عاما لكنها لا تكتفي بالمعالجة وبالتطبيب وترى بـــنفسها صاحبة رســالة اجتماعية. وعن ذلك تقول «عندما تأتي النساء ويســألنني عن فحص طبي أطلبه لهــن: الفحص عند رجل ولا امرأة ؟ فكنت أقول: كي تتعالج النساء ويتلقين خدمات طبية من طبيبــة علينا تعليم البنات. كذلك كنت أشجع الفتيات على التعلم.»

وبقدر مــا تولي مهنتها الجهــود والأوقات فهي كذلك مهتمــة جدا بالمطالعة وتقــول إن الفضل في هذه النعمة يعود لوالدها أيضا حيث حرص علــى قلة موارده على بناء مكتبة كبيــرة: صحيح أن بيتنا كثيــر الأولاد لكن مكتبتنــا عامــرة وكل الكتب والموســوع­ات متوفرة في مجالات شتى. وفي ذاكرتي انطبعت صورة والدي رجل يمسك الكتاب ويقرأ وأنا مثله صديقة للكتاب.»

من الكتب التي تركت أثرا في نفســها كتاب عن طبيب سويدي تجول في دول العالم وكتب تجربته وحكمه من الحياة، ومن هذه الحكم التي تســتذكرها قوله إنه من لا يحب الكلاب لا يمكن أن يصبح طبيبــا بيطريا... فكيف ممكن أن يكون الشخص طبيبا وهو لا يحب الناس؟».

فراسة الطاهر وطّار

ومن الكتب الأخــرى التي أثّرت في نفســها كتاب «ذي ايلاند» وهــو رواية مبنية على قصة حقيقية عن مرضى الجــذام، وأحداثها في جــزر اليونان، وعنها تقول «كانــت العادة منــذ1912 حتــى 1957 أن يتم حجر المجذومين في جزيرة ســينالونغ­ا اليونانية كما هو اليــوم مع حجر مرضى كورونــا». وتضيف «قبل سنوات ســافرنا لجزيرة كريت اليونانية ومنها زرت الجزيرة المذكورة خصيصا وشاهدت أين كان يعيش هؤلاء المجذومون كل عمرهم. وقتها كان مرضا معديا ولا يوجــد له علاج ولا بد من الحجر واليوم طبعا هذا المرض )الجذام( لم يعد موجــودا.. وافتقد من الدنيا عام 1957».

كما تشــير لرواية «الدماغ المشــتعل» وهي رواية حقيقية كتبتها صحافية أمريكية تدعى سوزان كالاهان مرضت وقام طبيب أعصاب ســوري شــهير مقيم في الولايات المتحدة يدعى سهيل نجار بمعالجتها وكتبت عن تجربتها هذا الكتاب. وفي هوليوود أنتجوا فيلما عام 2016 استنادا لهذه الرواية.

أما روايــة «الــاز» للكاتــب الجزائــري الراحل الطاهر وطار فلهــا خصوصية مميزة لــدى الطبيبة الفلســطين­ية من أم الفحم، وعن ذلك تستعيد المفارقة التي جمعتهمــا بالقول: «زارنا قبــل أكثر من 30 عاما كتاب وشعراء عرب في كلية الاستشراق في ليننغراد وكان زوجي زياد ســكرتير فرع الطــاب العرب في الجامعــة الســوفييت­ية وقتذاك. اســتقبلنا ســميح القاسم ومحمود درويش والكاتب يوسف القعيد من مصر وســعدي يوسف شــاعر عراقي والطاهر وطار مــن الجزائر وكنت قرأت له قبل وقــت قصير رواية « الــاز» دعوناهم جميعا لغرفتنا في مســاكن الطلاب وهنــاك تناولنا وجبة غداء وخلالهــا قال لي الطاهر وطار إن الفلسطينيي­ن يلفظون «اللاز» المستوحاة من تجربة الاستعمار الفرنسي في الجزائر بطريقة خطأ. وقتهــا فاجأني الطاهــر وطار بالقــول: صحيح أنت فلسطينية لكن فيكي شيء من بلادي... أنت تشبهين الجزائريــ­ات. وقد صدق فوالــدي أصله من الجزائر.

جدي جــاء من مدينة تلمســان الجزائرية مع مجموعة الأمير عبد القادر الجزائري للمشرق فــي منتصــف القرن التاســع عشــر وجدي وشقيقه ســكنا في قرية هوشــة )المغاربية( بجوار مدينة شفاعمرو حتى نكبة 1948 انتقلا بعدها لمدينة أم الفحم وقد ســمينا» اغبارية» لأننا أقمنا بحــارة عائلة الاغبارية. جاء جدي من هوشــة لأم الفحم وكانــوا يدعوننا عائلة «مغربي» أو بيت التلمســان­ي وكان جد والدي محمود حسن الشيخ محمود تلمساني قد كتب اسمه بالوشم على ذراعه.

مفاجأة جديدة في أرمينيا

وخلال إحــدى العطــل الشــتوية نظمت كليــة الطــب لطلابها رحلــة إلــى جمهورية أرمينيا حيث كانت تنتظرهــا مفاجأة أخرى. تســتذكر الدكتورة سارة دراستها في الاتحاد الســوفييت­ي، وقالت إن الوفــد الزائر أقام في فندق في العاصمة ياريفان وكان رجلا أرمنيا يقــرأ جريدة « الاتحــاد» الحيفاوية ففوجئت ولما ســألته قال لها: كنت ســاكنا في فلسطين في يافــا وعضوا فــي عصبة التحــرر الوطني. فقال له زوجهــا زياد: هل أنت «المشــط»؟». وتابعت «كان زوجي زياد وهو رفيق في الحزب الشــيوعي قد سمع من والدي قصصــا عن تجارب ماضيــة ومن ضمنها قصة هــذا الرجل الأرمني الملقب بـ «المشــط « ووقتها كانوا يعطون اسما حركيا لكل واحد.

واستذكر الرجل الأرمني والدي الذي كان شيوعيا في يافا قبل1948 وكان يعرفه جيدا وعندما علم أنني ابنته ومن شــدة انفعالــه بكى ودعانــا لزيارته في بيته في ياريفان مع بعض زملائه الأرمن الشيوعيين القدامى ممــن كانوا معه في البلاد. وســهرنا وغنينا وبكينا. أوصاني بأن أحضر له كوفية وعقالا وفعلا في العام التالي حققت له مبتغاه.»

ومن طرفــه أيضا، يحقــق زوجها الدكتــور زياد محاميد مفاجآت، فهو شــاعر أيضــا وصدرت له عنه دواوين شعرية أهدى واحدا منها لها، وردا على سؤال مازح متودد عمــا إذا كان الزوج الشــاعر «يهددها» أحيانا بقصيــدة هجاء قالت «لا هــو كتب في قصائد جميلة .»

إصابة الزوج

فــي المقابل تعرضت ســارة وزوجهــا زياد لأخطر مفاجــأة كادت أن تودي بحياته عندمــا تعرض قبل ثلاث ســنوات لرصاصــات أطلقها « مجهــول» على دكان لبيع اللحوم في مدينته أم الفحم عندما كان في داخلها لشراء لحوم لإطعام كلاب البيت. بعد إصابته بالرصاص اضطر الدكتور زيــاد محاميد للعلاج لمدة 110 يومــا واضطرت الدكتورة ســارة لتــرك عملها والوقوف لجانبه طيلة هذه الفترة الحرجة. الدكتورة سارة محاميد

بعدها اضطر الطبيب زياد لترك عمله في المستشفى، وهو اليوم يعمل في عيادة خاصة بشكل متقطع بعدما أصابته نــار العنف والجريمــة، والمفارقــ­ة أنه كان يريد اقتنــاء الطعام من دكان اللحــوم لكلاب ضالة في شــوارع يقوم بمنحها المأوى فــي بيته. وعن ذلك تقول «نهتم بحياة الحيوانات ووجدنا حالنا ضحية العنف. لم يستعد زياد عافيته بعد ثلاث سنوات رغم أنه مكث في المستشفى طيلة أربعة شهور واضطررت لترك عملــي ورافقته كل الوقت ولما عــاد للبيت كنت أبقى أعالجه لساعات. كان فاقدا الوعي وكنت أسمعه بأذنه أغنية فيروز المشتركة لنا « يا حبيبي كل ما هبّ الهوا». ولاحقا قال لي إنه كان يســمعها رغم أنه كان مخدرا ونائما ويتنفس تنفسا اصطناعيا إلا أن فيروز كانت تدخل أذنــه وقلبه وتحرك وجدانه». وتقول إن «مالا» كلبة عاشــت في بيتهما وقد ماتــت حزنا على إصابة زيــاد وانقطاعه عن البيت خــال مكوثه في المستشفى بعد إصابته. لكن الإصابة لم تخرج الشفقة من قلبيهما فهما يمنحان المأوى اليوم لستة كلاب منها كلب» كحل الليل» وقد مات بعد 13 عاما ولديهما أيضا كلبة اسمها «سميزانا» أي ثلجة بالروسي لأنها بيضاء اللون، ووجداها مصابة مربوطــة على مدخل بيتهما في ســاعة متأخرة من الليل فتبنياها ومنحاها اسما روسيا يشي بلونها الأبيض.»

وردا على ســؤال ترى الدكتورة سارة أن القيادات العربيــة الفلســطين­ية فــي الداخل تقــوم بواجبها لمواجهة عدوى الجريمة والعنف، لكن استمرارها هو بالأساس مسؤولية الشــرطة الإسرائيلي­ة التي تبقي جرائــم كثيرة جدا بدون مجرمــن وملفات مفتوحة، مما أخرج عشرات آلاف الشــباب من المدينة وغيرها من فلسطينيي الداخل للشوارع للتظاهر والاحتجاج قبل أيام.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom