تونس: تعزيز التلفزة الوطنية تحصين للديمقراطية
■ من المقرر أن تطلــق في بريطانيا العــام القــادم قناتــان تلفزيونيتان جديدتان. فقد منحت هيئة الإشــراف على البث الإذاعي والتلفزيونــي «أوفكوم» الترخيص القانوني لكل من قنــاة «جي بي نيــوز» التي ســيكون الصحافي القدير أندرو نيل رئيس مجلس إدارتها ومذيعها الأول، وقناة «تلفزيون التايمز» التي سيطلقها امبراطور الإعلام روبرت مردوخ.
وهــذا أحدث دليل، إن كان هنالك مــن حاجة إلى دليل أصلا، على عــدم صحة ما تزعمــه بعض الأطراف السياســية الداعية إلــى «تحرير» الإعــام التلفزيونــي في تونس مــن أن الأنظمة الديمقراطية العريقة لا تفرض أية قيود على حرية إنشاء قنوات التلفزيون!
ولا يمثل ظهور القناتين الجديدتين تلبية لحاجة ديمقراطية أو تداركا لنقص إعلامــي. ذلك أن الأمر لا يتعلق لا بالديمقراطية ولا بالإعلام، وإنما بالإيديولوجيا. إذ تشهد بريطانيا منذ عقود حربا إيديولوجية باردة تدور رحاها حول الإعلام التلفزيوني تحديدا. فقد ضمنت قوى اليمين السياســي السيطرة على معظم الجرائد الكبرى، مثل الديلي تلغراف والديلي ميل والديلي اكســبريس. واكتملت السيطرة بدخول مردوخ ســوق الصحافة البريطانية منذ أواخر الستينيات واســتحواذه على جرائد الصن والتايمز والصنداي تايمــز، بحيث لم يبق فــي بريطانيا الآن من صحف ليبرالية إلا الغارديان والفاينانشل تايمز والاندبندنت.
ولكن الإعلام التلفزيوني بقي عصيّا على قوى اليمين ومصالح السياســة والمال لأن قوانــن البث في بريطانيــا صارمة، حيث أنها تلزم جميع القنوات بقيــم وضوابط يأتي في مقدمها الحياد والتوازن والإنصاف. وبما أن البي بي ســي هي النموذج الأمثل لهذه القيم والضوابط، باعتبارها مؤسســة التلفزيون العمومي الأولى في بريطانيا، بل في العالم، فإنها لا تفتأ تتعرض لهجمات السياســيين اليمينيين الذين اتخذوها عدوّا وبالغوا في عداوتها إلى حد الهوس. ولهذا فإن غرض القناتين الجديدتين هو محاولة استنســاخ تجربة قناة فوكس الأمريكية اليمينية )الترامبية منذ ما قبل ترامب(. ولكن العارفين يشككون في إمكان نجاح المحاولة لأن قوانــن البث ســوف تكون بالمرصاد لما ســمّي، اســتهزاء، بـ«فوكسة» أو «ترميب» التلفزيون البريطاني.
أما فــي تونس فإن ما تريــده الأحزاب التــي تتغنّى بملحمة تحرير المجــال التلفزيوني إنما هو «التشــريع لقانــون الغاب» حســب تعبير رئيس الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال الأســتاذ كمال العبيدي. أي أنها تريد أن يصبح البث التلفزيوني مباحا لكل من هب ودب من أصحاب المطامح الانتخابية والمصالح الحزبية والسياســية والمالية. كما أنها تريد تكريس الأمر الواقع بإضفاء الشرعية على القنوات التي تبث منذ سنوات بشكل غير قانونــي والتي تنعم قناتان منها بحماية سياســية ضد القانون لأنهمــا ترتبطان بحزبــن وازنــن. إذ يبدو أن دعــاة التحرير إنما يريدون أن يصير المشــهد التلفزيوني مرآة لفوضى المشــهد الحزبي. والدليل أن بعضهم زعم أن البلاد تتسع لإنشاء 150 قناة تلفزيونية! القيــاس إذن واضح: بما أن في البــاد أكثر من 200 حزب، فلماذا لا يكون فيها 150 قناة؟ أو700… وهل من مزايد؟
لكن الحقيقة أن ســوق الإعلان في تونس صغيرة جدا بحيث لا تســمح، في أفضل الأحــوال، ببقاء أكثر من قناتــن، إذ إنها لا تتجاوز 81 مليون دولار سنويا )في مقابل 355 مليون في الجزائر و1371 مليون في المغرب(. فلا عجب إذن أن تكون مصادر تمويل القنوات الخاصة في تونس اليوم مصادر مشــبوهة أو مجهولة. ولهذا فالذي أراه شــخصيا هو أن تجربــة الانتقال الديمقراطي الهشــة في تونس تتطلّب، في هذه الطور الحرج الملغّم بالمخاطر، تحصينــا إعلاميا كليا ضد مختلــف المطامع والمطامح، أي ســد الذرائع سدا نهائيا أمام جميع أصحاب المصالح.
كيــف ذلك؟ بجعل البــث التلفزيوني خدمــة حصرية منوطة بالقطاع العمومي. إذ لا حاجة بالتونســيين اليوم إلى قناة أخرى غير التلفــزة الوطنية ولا قدرة لهــم ولاقتصادهم الضعيف على تمويل سواها.
أعلم أن هذا الرأي قد يبــدو راديكاليا أو طوباويا. لكن تاريخ بريطانيا وفرنسا القريب أثبت أن التعددية التلفزيونية، تحديدا، ليست من اللوازم الدائمة للديمقراطية. هذا فضلا عن أن التقليل من أعداد «التلافز» (كما يسمي التونســيون قنوات التلفزيون( قد صار ضرورة انقاذية تســتوجبها المصلحــة العامة، نظرا إلى أن تجربة الانتقال الديمقراطي تهتز الآن في مهب العواصف وأن الدولة توشك على الغرق في خضم الأزمات المتراكمة الناجمة عن فوضى الحياة الحزبية والبرلمانية وعبثيــة القانون الانتخابي وانسداد النظام السياسي.