Al-Quds Al-Arabi

من «الزاوية الدافئة» إلى المواجهة: أردوغان ونظام عالمي جديد بنجومية تركية

بنى دولة إقليمية لا يستهان بها... صادق ترامب وشارك روسيا وساوم أوروبا وقال: «سيأفل نجم الخليج غداً»

- تسفي برئيل هآرتس 2020/10/23

■ ســمع جيــداً وفــي كل المنطقــة حين صك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أســنانهما إزاء سلوك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في شرق البحر المتوســط. «نطالب تركيا بالكف عن هذا الاســتفزا­ز المتعمد والبدء في محادثات مــع اليونان علــى الفــور... الإكــراه والتهديد والنشاطات العسكرية لن تحل التوتر في شرق البحر المتوســط» هذا مــا أوضحتــه المتحدثة بلســان وزارة الخارجية الأمريكيــ­ة، مورغان ارتيغــوس في الأســبوع الماضي. «علــى تركيا أن توقف دائرة الاســتفزا­ز... وقــد تفاجأنا من الخطوات التي شاهدناها من قبل تركيا مؤخراً» قال وزير الخارجية الألماني، الذي ألغى وبصورة دراماتيكية زيارته المخطط لها في تركيا.

تناولت الردود المناورة التي قام بها أردوغان عندما أعلــن نيته إمداد التنقيــب عن النفط في أحد الأقسام البحرية قرب تركيا حتى 27 تشرين الأول الحالي، والتي حسب ادعاء اليونان توجد في المنطقة البحريــة الاقتصادية التي تعود لها. وحسب البيان الســابق لتركيا، كان يمكن لهذه أن تنتهــي أمــس، وكان يبــدو أن تركيا -رغم ذلك- تهتــم بالضغط الدولي، وهي مســتعدة للعــودة إلى طاولة المفاوضــا­ت، لكن لأردوغان خطة خاصة به. وبات صراخ دول أوروبا ينزلق بسهولة عن التفلون الذي يحيط بقصر الرئاسة في أنقرة. منذ أسابيع يتزايد الخطاب السياسي عن الحاجة لفرض عقوبــات اقتصادية أو حظر عســكري على تركيا، إذا لم توقــف التنقيب عن النفط والغاز في المناطق المختلف عليها، وللحظة كان يبــدو أن الاتحاد الأوروبي مســتعد لاتخاذ مثل هذه الخطوة الشديدة.

ولكــن عندما انعقــدت قمة زعمــاء الاتحاد الأوروبي، الجمعة الماضي، تكاد قضية الســلوك التركي لا تطــرح للنقاش، وكانــت هناك حاجة إلى ضغــط يوناني مكثف لطــرح الموضوع على جدول الأعمال. كانت التصريحات التي خرجت من القمة شــديدة وحازمة، لكن رؤساء الاتحاد أوضحــوا لليونان بأنــه من الأفضــل الانتظار وإجراء النقاشات بدلاً من العقوبات حتى القمة المقبلــة في كانــون الأول. الخــاف في صفوف الاتحاد بين ألمانيــا وإســبانيا وإيطاليا ومالطا وهنغاريا التي تعارض العقوبات، وبين فرنسا، تخدم أردوغان جيداً. هذه الدول الخمس تخشى أن يرســل أردوغان موجة جديدة من اللاجئين إلى أراضيها إذا فرضت عليه عقوبات.

وليست هذه هي المرة الأولى التي تحول فيها ملايين الرهائن السوريين في السنوات الأخيرة إلى ورقة مســاومة في المفاوضات التي تجريها تركيــا مع الاتحاد، وعلى الرغم مــن أن تركيا لم تحصل علــى كامل طلبها من الاتفاق السياســي الذي وقع بينها وبين الاتحاد، إلا أنها استخدمت في الســابق التهديــد عدة مــرات بفتح الحدود لوقــف مبــادرات أوروبية اســتهدفت ضبطها، سواء في مســألة التنقيب في البحر المتوسط أو في موضوع تدخل تركيا في الحرب السورية.

إن تأجيل النقاش حول صد تركيا إلى كانون الأول غير منفصل عن موعد الانتخابات الأمريكية للرئاسة. ومثل كل زعماء العالم، لا يمكن لزعماء أوروبــا وتركيا البــدء بالتخمين من ســيكون الرئيس المقبل للولايات المتحــدة. رغم الصراخ الذي يسمع من وزارة الخارجية الأمريكية، فإن العلاقة الشخصية بين أردوغان وترامب ممتازة. ترامب صد بجسده نية الكونغرس والناتو فرض عقوبات على تركيا عندما اشترت صواريخ «إس 400» من روسيا. صحيح أن أردوغان وعد ترامب

بأنه لن يدخل الصواريخ إلى الاستخدام الفعلي قبل الانتخابات، ولكن تركيا أجرت في الأسبوع الماضــي تجربــة عملياتية للصواريــخ. أُبعدت تركيــا عن برنامج بناء طائــرات «إف 35» لكنها ســتواصل إنتاج أجزاء لصالح هــذه الطائرات لأشهر من العام 2021.

وفي مســألة الحرب في ناغورنــو قره باغ، يفضل ترامب أن لا يصطدم مــع أردوغان، الذي تشــارك قواته في الحرب إلى جانب أذربيجان. وقد انضم إلى دعوات فرنســا وروسيا لتطبيق وقف إطلاق النار، ولكنــه وقف بصمت منذ ذلك الحين، واقترح أن تســتضيف الولايات المتحدة المفاوضات. ولا يمكنه أيضــًا اتهام أرمينيا خوفاً أن يخســر أصــوات الأرمن، وهم نحــو مليون ونصف شــخص يتركزون في المدن الديمقراطي­ة )نيويورك وبوســطن ولوس أنجلوس( في حين أنها لا تريد اتهــام أنقرة من أجــل أن يدافع عن صديقه.

أما وزير الخارجية الروسي سرجيه لافروف فلم يتحدث عبثاً عندما أعلن، الأســبوع الماضي، بأن «روسيا لم تعتبر تركيا حليفة استراتيجية، بل شــريكة مقربــة». يبــدو أن بوتــن، خلافاً لترامب، لا يعتبر نفسه ملزماً بعلاقات شخصية جيدة بينه وبين أردوغان عندمــا تدوس تركيا على مــكان مؤلم لروســيا. والانتظــا­ر المتلهف للانتخابــ­ات الأمريكيــ­ة مضلل للاعتقــاد بأن انتخاب بايدن ســيؤدي إلى تغيير جوهري في سياســة الولايات المتحــدة تجــاه تركيا، وهو تغيير سيعطي الدول الأوروبية الدعم لاستخدام الضغط السياســي على أردوغــان. ولكن تهديد اللاجئــن الذي تخافه أوروبا ســيبقى ســارياً دون صلة بالشخص الذي ســيجلس في البيت الأبيض، والنــزاع بين تركيا واليونان ســيلزم الاتحاد الأوروبي بأن يحله بنفســه، ولن يسمح

لواشنطن بتحديد قواعد اللعب في شرق البحر الأبيض المتوسط.

لمن ينتظــر انقلاباً في السياســة الدولية قد يلــوي إرادة أردوغان، أرســل الرئيس التركي رســالة حاســمة وواضحة: «كل الطرق، بما في ذلك هجمات إرهابية ومحاولات انقلاب أافخاخ اقتصادية وجهــود لعزلنا، وجهت من أجل إبعاد تركيا عن أهدافها. لقد نجحنا في إحباط كل هذه الهجمات والمؤامرات. معظم المؤسسات الدولية والدول التي تدعي بأنها تحمل راية الديمقراطي­ة كشــف وجهها الحقيقي تجاه تركيــا» وأضاف: «أصبحــت تركيــا أقــوى وأكبــر، وإن مجالات مصالحهــا والأمــور التي تتدخل فيهــا بصورة مباشرة وغير مباشــرة، تزداد بصورة طبيعية معها».

أمام النــزاع الإســرائي­لي ـ الفلســطين­ي، والحرب في ليبيا وناغورنو قره باغ، والتنقيب عــن النفط فــي البحر المتوســط والأكــراد في سوريا، أو حلف الدفاع مع قطر... يقف أردوغان ويعد بأن تظل تركيا في كل مكان ولن يســتطيع أحد وقفها. كرئيس حصل على قوته السياســية فــي بداية الطريــق بفضل نجاحــه الاقتصادي الكبير الذي أوصل تركيــا إليه رغم تزايد الأزمة الاقتصادية، قــام أردوغان ببنــاء تركيا كدولة عظمى إقليمية وكقوة سياســية لا يمكن تجاهلها أو الاســتخفا­ف بهــا، دولة مســتعدة لمواجهة أوروبا وروسيا والولايات المتحدة.

من دولة تطلعت نحو أن تجد لنفســها زاوية دافئة في الشرق الأوسط العربي، تحولت تركيا إلــى دولة مواجهــة تعتبر بالنســبة للعديد من الدول العربية دولة معادية. تجندت الســعودية هذا الشهر لفرض عقوبات اقتصادية على تركيا في أعقــاب تصريحات أردوغان فــي قضية قتل جمال الخاشقجي، وثمة مقاطعة رسمية موجودة

فــي الواقع منذ نحو ســنة، لكنهــا تطبقها الآن غرف تجارية ومســتوردو­ن وتجار ومواطنون عاديــون. رئيس مكتــب التجارة الســعودي، عجلان العجلان، تبنى شــعار بي.دي.إس ضد إســرائيل وقام بنسخه للســعودية عندما أعلن بأنه «لن تكون استثمارات أو تجارة أو سياحة» مع تركيا. هذه المقاطعــة مفروضة على البضائع التركية، بل وعلى ســلع وبضائــع جرى إنتاج أجزاء منها في تركيا وتسوق في السعودية.

الضــرر المقدر للاقتصاد التركــي يبلغ نحو 3 مليارات دولار، وهو مبلــغ كبير للاقتصاد الذي يعاني هبوطاً حراً لقيمة الليرة التركية، وبطالة مرتفعة، وتضخماً يبلغ 12 فــي المئة، وعجزاً في الميزانية وصل إلى 4.9 في المئة من الناتج المحلي الخام مقابل توقــع يصل إلى 2.9 فــي المئة. لقد كان لأردوغــان إجابة لاذعة بشــكل خاص على هذه المقاطعة: «يجب أن لا ننســى أن هذه الدول )دول الخليج( لــن تكون موجودة غــداً، لكننا ســنواصل رفع رايتنا في المنطقــة إلى الأبد، إن شاء الله». يسوق أردوغان رؤيته التي تقول إن دول أوروبا والولايات المتحدة بحاجة إليها أكثر

مما هي تركيا بحاجة إليها. ويشــرح بأن النظام العالمي القديم، والتحالفــ­ات والكتل التقليدية، والتفاهمات والاتفاقات التي وضعت حتى الآن، تنهار وتخلي مكانها لموازيــن قوى جديدة. وأن «تركيا هــي النجم الصاعد للتوجهــات الدولية والإقليمية الجديدة هذه .»

هــذا تشــخيص صحيــح عندمــا نفحص الهزات التي مر بها الشــرق الأوســط في العقد الأخيــر، وتراجع قــوة ومكانة أمريــكا في عهد ترامب وتقوقع أوروبا على نفســها. ولكن رؤيته المصابــة بجنون العظمة والمحميــة الآن من قبل حلفاء وأعداء يخافــون من رده، تقتضي فحص التداعيات الخطيرة لبــروز زعيم إقليمي يمتلك قوة عســكرية عظمى ويعلن بأنه لــم يعد ملزماً بالترتيبات القائمــة. المواجهة مع اليونان حول التنقيب عن النفط في المناطق المختلف عليها من شــأنها أن تتضح كمحاولة لتنفيذ استراتيجية أردوغان الجديــدة، وليس فقط كنزاع اقتصادي بين الدولتين.

 ??  ?? الرئيس التركي رجب طيب اردوغان
الرئيس التركي رجب طيب اردوغان

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom