Al-Quds Al-Arabi

شرق المتوسط: أوراق أنقرة في مواجهة باريس

- كاتب سوداني

فــي مقابــل الســاحل التركــي المتوسطي مجموعة كبيرة من الجزر، التي تتبع سياسياً لليونان، رغم قربها الشــديد من الشــواطئ التركية )كيلومتــرا­ت معدودة(. يخلق هذا إشــكالات حدوديــة حول أحقيــة البلدين في الاســتفاد­ة من الموارد، ففي حين تــرى تركيا أن الأحقية لهــا، لأن تطبيق قانون ومعاهدة البحار والمياه الإقليمية، يعني أن تكون عملياً غير مســتفيدة من إطلالتها البحرية الواسعة، ترى اليونان أن امتلاكها للجزر يعني امتلاكها الحرية الكاملة في استغلال خيرات المنطقة.

البحــث عــن أســباب التعقيــد الحــدودي، ســينقلنا إلــى مناقشــة تاريخيــة تتتبع الأيــام الأخيرة للســلطنة العثمانية، بعد أن أجبرت على تقليص حدودها (اتفاقية لــوزان 1923( مقابل الســماح لها بتكويــن دولة وطنية. التاريخ ســيكون دائماً حاضراً في العلاقة المتأزمة، التي تتمظهر في موضــوع الحدود البحريــة، ولكن أيضاً في القضية القبرصية وقضية الأقلية اليونانية المسلمة.

في مقابل ذلك نجد أن فرنســا، بسبب علاقة التنافس مــع تركيــا، حوّلت نفســها لجزء مــن الخــاف، بعد أن تدخلت مساندة لليونان، ناظرة للأمر كاعتداء يستوجب الرد. بهذا تحول شرق المتوسط، لساحة جديدة للصراع التركي الفرنســي، جنباً إلى جنب مع مســاحات أخرى فــي افريقيا، وفــي غيرها مــن مناطق النفوذ الفرنســي التاريخي.

ورغم علمانية نظام الحكم في الدولتين، إلا أن المسألة العقدية، تبدو حاضرة في السياسة الداخلية والخارجية لكل من فرنسا وتركيا، فالأولى كانت تظهر نفسها، رغم علمانيتهــ­ا الراســخة، كمدافعة عن المســيحيي­ن، كما أن الرؤســاء المتعاقبين لم يكونوا يتعاملــون بحياد، حينما يتعلــق الأمــر بالديانــة الإســامية، وقــد ظهر هــذا في تصريحــات الرئيس ماكرون المتتاليــ­ة، التي كان آخرها حديثه عما سماه «أزمة الإسلام.»

في المقابل فإن الخطاب التركي الرسمي، غير منفصل عن الدين الإســامي، كما ظهر على سبيل المثال في ربط الرئيــس أردوغان، بــن اســتعادة آيا صوفيــا وتحرير القدس. بسبب روحها الكاثوليكي­ة كانت فرنسا من أهم الرافضــن لدخول تركيــا النادي الأوروبــي، كما كانت من أهم المحذرين مــن تعاظم الدولة التركية، التي انتقلت بــن عقدين مــن الزمان مــن دور التابع إلــى دور الفاعل والمتحــدي. المتابــع للإعلام الفرنســي يلحــظ حالة غير مسبوقة من التحشــيد والتصعيد المتزامن، مع التصعيد الرســمي الذي وصل مرحلة التلاســن والتحذير العلني بين الرئيســن. رغــم ذلك فإن دخــول الطرفين في حرب تقليدية كان على الدوام مســتبعداً. الخيار الأكثر واقعية كان محاولة كل طرف اســتغلال أوراقه الاســترات­يجية، مــن أجــل إخضاع الآخــر، وإجبــاره على الاستســام. تبدو فرنســا لأول وهلة قوية استراتيجياً، فمن الناحية الإعلامية ومن ناحية السيطرة على المجموعة الأوروبية، خاصــة إذا تم جــذب أو تحييــد ألمانيــا، تبــدو صاحبة ورقة رابحة مقابل تركيا، التــي تظهر مأزومة اقتصادياً ومعزولــة إعلاميــاً، بســبب انخراطهــا فــي كثيــر مــن الخلافات عبر محيط عمقها الاستراتيج­ي.

بإمــكان الحلــف الفرنســي، إذا تكــوّن، أن يفعّل على ســبيل المثال آليــة عقوبــات أوروبية مؤلمة، قد تتوســع إذا انضمــت دول من خــارج أوروبا لهذا المعســكر. هذه الفرضيــة كانــت رائجة خــال الأســابيع الماضية، لحد تعويل أصحابها علــى القمة الأوروبية التي عقدت نهاية الأســبوع الماضــي، لكن القمــة انتهت مــن دون التوافق حول أي نوع مــن العقوبات، أو التصعيــد، رغم محاولة الضغــط الفرنســية واليونانية. مشــكلة تلــك الفرضية

هي أنها تجاهلت حقيقــة أن تركيا جزء أصيل من حلف الناتو، بل إن جيشها من بين الأقوى فيه، فيكفي أن تهدد بتعليق عضويتها، حتى يشعر الجميع بالاهتزاز.

هذه الحقيقة سبق أن أجبرت الولايات المتحدة نفسها على التوقف عن سياســة الضغوط والعقوبات تجاهها، خاصة حينما اعتبــرت أن التواجد التركي مفيد لمواجهة أطراف أخرى في ســوريا وليبيا. يتذكــر الأمريكيون أن إحجــام الحلف عن التعاون العســكري مع الأتراك، أدى إلى اتجــاه أنقرة إلى وجهات أخرى كالصين وروســيا، حتى وصل الأمــر لامتلاك منظومة أس 400 الصاروخية الروسية، كبديل لصواريخ الباتريوت.

مــا تــزال تركيــا تملــك خيــار التعــاون مــع الــروس والصينيين في مجال البدائل الحربية، سواء لاستكمال اســتقلاله­ا الدفاعي، أو للتوجه للتصدير وفتح أســواق منافسة في افريقيا وغيرها من أنحاء العالم.

الطــاق مــع الأســرة الأوروبيــ­ة، أو الأطلســية ليس خيــاراً مفضــاً، لذلــك تحــاول تركيــا التحــرك وفــق خطــوات مدروســة، من دون تــردد في تقــديم تنازلات، كما حــدث حين أعلنت وقــف التنقيب فــي المناطق ذات الصلة وســحب ســفينتها، حــدث ذلك رغــم أن اليونان كانت تتعاقد على شــراء مزيد من الأســلحة من حليفها الفرنسي، وتتجه إلى الاســتفزا­ز عبر العمل على تسليح الجــزر القريبــة مــن الحــدود التركية. خطــورة الضغط الأطلسي على تركيا والتكتل الناشئ والمعادي في شرق المتوســط، تكمن في أنه قــد يقودها للانضمــام للحلف المقابــل غير المعلن، والذي يمكــن التوافق معه حول مبدأ رفض الهيمنة الغربية، كما يمكــن لتركيا أن تدعم بدائله الاقتصاديـ­ـة الطموحة المطروحة، التي مــن بينها تعزيز التعامل خارج مظلة الدولار والتنســيق الجماعي تجارياً وعســكرياً لدخــول بعض الأســواق بعد تأمــن الممرات البرية والبحرية.

حاليــاً تبدو علاقة تركيــا بذلك الحلــف البديل، الذي يضم بشــكل أساســي روســيا والصــن، والــذي يمتد ليشــمل مجموعة واســعة من الدول، جيــدة، فهي تعتبر شــريكاً لكل تلــك الدول، وعضــواً فاعلاً في مشــاورات تحريــر التجــارة وفتــح الحــدود والربــط عبــر إحيــاء مســارات طريق الحرير وغيره. بإمكان العلاقة أن تتطور

أكثــر إذا مــا كان هذا الحلــف هو الخيــار الوحيد، بل قد تســاعد تركيا روســيا فــي أن تتواجد بكثافــة أكثر في المتوســط نكاية في الأطلســيي­ن، وهو ما لوحــت به عبر الدعوة لمناورة عســكرية متوسطية مشتركة مع الروس. بالعودة إلى طرح العقوبــات الأوروبية، فإن هناك أيضاً ســؤالا يطرح نفســه حول الموقف الأوروبي. من المعلوم على ســبيل المثال أن ألمانيا، ورغــم أن خطابها الإعلامي يبدو متماهياً مع الخطاب الفرنســي، إلا أنها من الناحية السياســية تبدو أقــرب للتهدئــة، ويبــدو صوتها الذي يدعو للتفاوض وتحكيم الدبلوماسـ­ـية عقلانياً، أما بقية الدول الأوروبية فهي مشــغولة بالبحــث عن مصلحتها الوطنيــة، في ظل التصــدع الذي يعيشــه الاتحاد، حيث ترى مجموعــة كبيرة منهــا أن لا مصلحة فعليــة لها في مقاطعة تركيا أو محاولة عزلها.

علينــا أن لا ننســى هنــا عامــل الهجرة، الــذي يجعل كثيرين يترددون في خــوض حرب مفتوحة مع الأتراك، الذين باتوا يســتطيعون إغراق القارة بالمهاجرين، سواء مــن المقيمين علــى أراضيها، أو من خلال المســاعدة على فتح الطريق لهم عبر المسار الليبي، على الرغم من انقسام الموقف الأوروبي والأطلســي، إلا أن فرنســا تابعت بجد تحريضهــا لكل من اليونان وقبرص، مــا قاد لمحاولتهما فــرض الأمر الواقع، وســعيهما لترســيم الحدود مع كل من مصــر والكيان الصهيونــي بالتزامن مــع المناورات العسكرية المشتركة بين كل من اليونان وفرنسا وقبرص والكيان.

قد يشــكل الموقــف الأمريكي الــذي يبــدو الآن أقرب للمراقــب، عامــاً حاســماً لترجيــح كفة أحــد الطرفين. الرئيس ترامب يشيد من جهة بأردوغان، لكنه يؤكد على أهمية شــرق المتوسط وضرورة الاســتفاد­ة من موارده، وصــولاً إلى الطمــوح المعلــن بقطــع الطريق علــى الغاز الروســي. على الرغم من استعادة الهدوء، إلا أن الصراع لــم ينته بعد. الشــراكة مع الأتراك اســتراتيج­ية لأوروبا وللولايات المتحدة، لكن الدوائر اليمينية النافذة تتشارك في الدفــع باتجاه تبني وجهة النظــر اليونانية المدعومة من فرنسا ومن حلفاء آخرين أيضاً.

الشراكة مع الأتراك استراتيجية لأوروبا وأمريكا، لكن الدوائر اليمينية النافذة تدفع باتجاه تبني وجهة النظر اليونانية المدعومة من فرنسا

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom