Al-Quds Al-Arabi

يفضح وحشية حروب أمريكا في أفلامه ويكشف حياته الشخصية الصاخبة

اوليفر ستون في «ملاحقة النور»:

- سمير ناصيف

يُعتبرُ المخرج السينمائي والكاتب الأمريكي أوليفر ستون مختلفاً عن غيره من المخرجين والكتاب العالميين لعدة أسباب أبرزها أن أفلامه المنددة بالحروب عموماً )وخصوصاً حرب أمريكا في فيتنام( بدلت توجه المجتمع الأمريكي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وأنه شخصياً، وبعد نجاحه في الحقل السينمائي، لعب دوراً أساسياً في تعريف البلدان الغربية والعالمية على شخصية رئيس الجمهورية الروسية فلاديمير بوتين عبر مقابلاته في السنوات الأخيرة التي صدرت لاحقاً في كتابٍ وفي برنامج وثائقي سينمائي. ولعل قصة صعوبات وكفاح ستون وعودته إلى النجومية تستحق أن يتم إنتاجها في فيلم سينمائي بسبب العنصر الدرامي فيها.

يتحدث ستون في كتاب «ملاحقة النور» عن حياته منذ طفولته وشبابه في كنف عائلة مرتاحة مادياً اختلف فيها والده النيويوركي اليهودي الانتماء الديني مع والدته الفرنسية الآتية من عائلة كاثوليكية متواضعة اجتماعياً في معظم الأمـور، وخصوصاً بالمقارنة بين القيم المتزمتة من جانب الوالد وعائلته وبين محبة الحياة الاجتماعية والحرية الشخصية والرفاهية من جهة الوالدة الجميلة والجذابة المظهر.

هذا الوضع العائلي المتأزم دفع ستون )البالغ حالياً الرابعة والسبعين من عمره( للابتعاد والتطوع للالتحاق بالجيش الأمريكي وأرسل للقتال في فيتنام عندما كان في أوائـل العشرين من عمره، وهناك اكتسبَ خبرة عارمة في القتال ولكن في الوقت عينه امتلأت نفسيته بالكره والقرف من تصرف الجنود عموماً )والمقاتلين الأمريكيين في حرب فيتنام خصوصاً( ومن وحشيتهم تجاه أعدائهم وضد مجموعات من القرويين الفيتناميي­ن الذين كان بعضهم يدافع عن أرضه والبعض الآخر غير معنيّ بالحرب ويمارس الزراعة في قراه.

وهـذا القرف ساهم في تحول ستون، بعد عودته إلى بلده، إلى كاتب سيناريو أفـام يبحث عن العمل ويقضي أوقاته في المشاركة في تظاهرات ضد حرب فيتنام والحروب عموماً، وفي أحيانٍ في تناول الكحول والمهدئات ومصادقة العائدين من فيتنام على شاكلته ومواجهة السلطة.

بيد أن حياته تبدلت إلى حد ما عندما التقى )حسب قوله( فتاة لبنانية اسمها نجوى سركيس، من منطقة الكورة الشمالية في لبنان كانت تعمل في نيويورك في البعثة الدبلوماسي­ة المغربية في الأمم المتحدة.

هذه الفتاة، ومع انها تكبره ببعض السنوات، ربما مثّلت ما كان يحلم بأن تكون شخصية والدته في الرزانة وإلتزام العمل الجدّي والوفاء للشريك، أو ما كان والده يرغب بأن تكون والدته في قيمها الأخلاقية كزوجة مُحبة.

يقول ستون في الصفحة )62( في الفصل الثاني: «نجوى سركيس كانت أمـرأة لبنانية مسيحية تتكلم الإنكليزية من دون لكنة، وفي وجهها مسحة فينيقية، بينما كنت أنا ما زلت ألبس بنطال الجينز شبه الممزق وأتكلم بصراحة ووقاحة وتحدٍ حول مواقفي من دون اكتراث لمواقف الآخرين.

وقد التقيتها في مناسبة اجتماعية نظمتها والدتي ودعتني إليها. وُأعجِبَت نجوى بي لاختلافي عن الآخرين الذين تقابلهم في حياتها العملية. وقبِلتني كما كنت، وبرغم خطورة مثل هذا القبول بالنسبة إليها. أما أنا فكنت أسعى لاستقطاب واستدرار عاطفتها وجاذبيتها المكتسبة من أصلها لكونها أبنة منطقة مجاورة للبحر الأبيض المتوسط. وأول علاقة حميمة بيننا جرت عندما كانت في الـ28 من عمرها فيما كنت أنا في الـ23 وبعدها انتقلنا للعيش سوياً في شقتها في نيويورك، ثم تزوجنا».

يضيف ستون في صفحات لاحقة أن مساهمة نجوى المالية في حياتهما فتحت أمامه المجال لمتابعة الدراسة فـي صناعة الأفـــام، لكنه استمر فـي عمله كسائق تاكسي بالأجرة في الفترة المسائية من يومياته. وكانت العودة بعد العمل إلى شقة نجوى ملجأ أوليفر النفسي والجسدي )ص66 و67.)

وعندما قررا الإنجاب أبلغه طبيب )ينتقده لاحقا في الكتاب( أنه غير قادر على إنجاب الأطفال، بعكس ما حدث لاحقاً في زواجه الثاني. غير أن ما أثر فيه كثيراً في شخصية نجوى ومحبتها له أنها لم تكترث لهذا الأمر واستمرت كزوجته المتعلقة به. وقد زار أوليفر لبنان، مسقط رأس زوجته الأولى في عدة مناسبات وتعرّف إلى عائلتها. كما أنه استمر على علاقة طيبة بها، بعد طلاقهما، وقد زارها مؤخراً في المستشفى في نيويورك بعدما أصيبت بعارض صحي )شفيت منه( حسب ما أكد صديق مقرب منهما.

وفي نهاية الفصل الثالث، يقول إن نجوى ظلت تحبه وتؤمن بقدراته الفنية والفكرية حتى خلال تحضيرهما أوراق طلاقهما، وأن هذا الطلاق تم لشعور أوليفر بأن حياته الصاخبة في عالم السينما والفن لا تتناسب مع حياة نجوى المستقرة والمحافظة.

في الفصول اللاحقة، يتحدث ستون عن لقائه مع زوجته الثانية أليزابيت )ليز( خلال حفلة كانت قد نظمتها صديقة لهما. وقد اختلفت ليز في شخصيتها عن نجوى كما اختلفت عنها في مظهرها الخارجي. كانت شقراء أمريكية الملامح وشاركته في محبته لاحتساء الكحول وتناول المخدرات الخفيفة، شأنهما شأن معظم العاملين في الحقل السينمائي في أمريكا.

وكانت ليز تمثل الجانب الآخر من شخصية ستون أي ذلك الجانب الذي يعشق المغامرة ولا يخشى الافراط في تحدي القيم المحافظة للمجتمع. كما انها شاركته الصعود التدريجي في انخراطه في أجواء عالم اليسار المنتقد لتوجه الـرؤسـاء الأمريكيين اليمينيين الذين قادوا بلادهم إلى حرب فيتنام وحروب دولية أخرى كريتشارد نيكسون ورونالد ريغان وغيرهما.

ويقول في الصفحة )162( إن زواجه من ليز، الذي كان مدنياً لدى كاتب عدل فدرالي، تم بعد جولة تناول كحول ومخدرات من جانبهما وكانا في حالة نفسية متدنية حتى أنه نسي بعد ذلك أنهما تمما هذا الزواج. وبرغم ذلك، نجح الـزواج لفترة طويلة وأنجبا خلاله طفلهما شون، وأمّنت له ليز شبه استقرار عائلي يتناسب مع وضعه السينمائي الفني وشخصيته.

أبــرز فيلمين أخرجهما أوليفر ستون وفــازا بأهم الجوائر السينمائية في الثمانينيا­ت كانا «بلاتون» )كتيبة عسكرية( و«سلفادور».

أمـا أول الأفــام التي نـال عليها الأوسـكـار لكتابة السيناريو، فكان «ميدنايت اكسبريس» (قطار منتصف الليل السريع( وذلك في عام 1979. ويحكي في الكتاب عمليات أنجاز أفلامه والصعوبات التي واجهها.

يقول ستون في الفصل السادس: «إن هنري كيسنجر والكسندر هيغ )وزيرا الخارجية الجمهوريين السابقين في عهدي نيكسون وريغان( كانا عضوين في مجلس إدارة شركة «ام.جـي.ام» ولم يرغبا بأن ينفذ الأستديو التابع لهذه الشركة فيلم «بلاتون» لانهما اعتبرا بانه يسيء إلى سمعة أمريكا والجيش الأمريكي» وهذا الأمر أغضبه كثيراً. وبالتالي، تظهر ميول ستون السياسية بوضوح في هذا الفصل حيث يُشبّه المنتج الإيطالي الأصل دينو دي لورانتس بالرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب في كونهما تعاملا ويتعاملان مع الدعاوى القضائية الخطيرة ضدهما وكأنها «مخالفات مرور» )ص198( وكانت هناك دعوى رفعها ستون ضد دي لورانتس حول حقوق إنتاج سيناريوات أفلام كتبها هو، وبينها سيناريو فيلم «بلاتون» وربحها أوليفر.

بعد نجاح ستون في الفوز بالجوائز الكبرى عن فيلمي «بلاتون» و«سلفادور» في الثمانينيا­ت، بـدأت تردهُ عروض من منتجين مؤيدين لإسرائيل لانتاج أفلام تروّج لمواقفهم، فأتاه عرض من المنتجين داريل زانوك وديفيد براون لكتابة وإخراج فيلم عن الجاسوس الإسرائيلي في سوريا في الستينيات إيلي كوهين، الـذي وصل إلى منصب وزاري قبل اكتشافه من جانب السلطات السورية، ولكن ستون رفض القيام بهذه المهمة. وقد نفذّتَ هـذا العمل، بعد أكثر من ثلاثين عاما، شركة «نتفلكس» التلفزيوني­ة في ستة مسلسلات وأتت نتيجته محرّفة ومنحازة وضعيفة فنياً. وبعد رفض ستون هذا المشروع قاطعه داريل زانوك وديفيد براون اللذان كانا من كبار منتجي هوليوود )ص 294.)

في الصفحات الأخيرة من الكتاب، يشير ستون إلى أن عملية «إيران ـ كونترا» التي زوّدَ خلالها نظام الرئيس رونالد ريغان الأسلحة للجمهورية الإسلامية الإيرانية في مقابل الإفــراج عن رهائن أمريكيين في لبنان في الثمانينيا­ت، ساهمت في الترويج لأفلامه وخصوصاً «بلاتون». ففي منتصف الثمانينيا­ت لم يعد الشعب الأمريكي يثق بحكامه بعد توالي التنازلات عن الوعود، أكان ذلك في فيتنام أو إيران )ص314.)

فعندما كان نظام ريغان يزود ثوار «الكونترا» في نيكاراغوا بأموال وأعتدة حصل عليها من تبادلاته المالية مع إيران لمحاربة نظام «الساندنستا» اليساري هناك «18 مليون دولار من ثمار هذه الصفقة الأمريكية ذهبت للكونترا» كان ستون ينجز ويقدم فيلمه «سلفادور» عن سياسات أمريكا الخطيرة في أمريكا الوسطى والجنوبية، ويُظهر فيه الدعم الأمريكي لعصابات قتل اليساريين في تلك القارة الجنوبية، وبعد ذلك، كان يُظهر في فيلم «بلاتون» جنون وخطورة ووحشية السياسات الأمريكية العسكرية في فيتنام. أي أن ستون يعترف

بأن تجاوزات وأخطاء السياسات الأمريكية الخارجية، وشنها الحروب غير العادلة، ساهمتا في إنجاح أفلامه مادياً ومهنياً ونجاحه كمخرج عالمي.

ويـوضـح سـتـون أن الـنـقـاد اختلفوا فـي آرائـهـم وتقييماتهم لفيلمه «بلاتون» الذي نال الأوسكار في عام 1986 وبعضهم وجده عنيفاً أكثر من اللازم وخالياً من الإنسانية والسرد الروائي الُمحفز على القيم، بل أنه كان يفعل عكس ذلك. بيد ان كبار النقاد والممثلين أعجبوا بالفيلم وهنأوا ستون عليه. وعندما افتُتح عرضه في صـالات نيويورك في كانون الأول )ديسمبر( 1986 أقبل الملايين على مشاهدته. وكرّت بعد ذلك السبحة في العالم، وحصد الفيلم مئات الملايين من الدولارات وأصبح أوليفر ستون أكثر من مخرج، بل صار أشبه بقائد حملة الإنسانيين في أمريكا المعارضين للحروب.

ولعل ذلك كان سبب قبول بوتين إجـراء مقابلاته الشهيرة معه وحتى استقطابه لهذا الإنجاز.

يُذكر أن عروضاً كبيرة قدمت وتُقدم لستون للقيام بأعمال سينمائية عن جون كينيدي وفيديل كاسترو وغيرهما، وهو يدرسها بعناية قبل الإقدام عليها. لكن قمة نجاحه سينمائياً كانت عندما بلغ الأربعين من عمره.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom