الشرق األوسط وصناعة التوتر
قدر منطقة الشرق األوسﻂ أن تظل مكبلة بظروف ومتغيرات بالغة الـدقـة والــخــطــورة، مما يقتضي التعامل مـع أحداﺛها الـعـاصـفـة بعمق وحـــذر، وتحليل أبــعــادهــا املـخـتـلـفـة، ومدى انـعـكـاسـاتـهـا، فــي ضــوء تــداعــيــات الــعــدوان اإلسـرائـيـلـي على قطاع غــزة، في أعقاب أحــداث السابع من أكتوبر ،2023 وما تاله من تدمير للقطاع، وإبــادة جماعية للشعب الفلسطيني األعزل. إن رصـــد الـــتـــطـــورات واألحــــــداث فــي إقــلــيــم مــضــطــرب، يشهد أحداﺛًا سياسية متوترة ومتواترة، تستدعي متابعة ومالحقة لــهــذه األحــــــداث، وتـقـيـيـم إفـــرازاتـــهـــا عــلــى الــصــعــد السياسية واالستراتيجية والثقافية كافة. هذه األحداث ترج إقليم الشرق األوسﻂ امللبد، أصال، بالخالفات املتعاقبة التي ال تهدأ، وتجره إلى حافة الهاوية، وتغرقه في ظــالم الــحــروب والــدمــار، السيما أن هـنـاك سياسة إسرائيلية تقاد من قبل مجموعة صهيونية متعجرفة متطرفة ترفﺾ ســائــر مـــبـــادرات الــســالم فــي املـنـطـقـة، وتــعــارض حـــل القضية الفلسطينية على أسـاس مبدأ الدولتني وإنهاء الصراع، ذلﻚ أن استمرار الصراع يكفل بقاءهم بالسلطة حتى على حساب املـواطـن اإلسرائيلي نفسه. وفـي املقابل، هــنــاك أنـظـامـة تـتـوافـق مــع سـيـاسـة االبتزاز هــذه، ويحلو لها عـدم حل القضية رغبة فـــي االســـتـــمـــرار بــاســتــخــدامــهــا ذريعة ووســيــلــة سـيـاسـيـة لــفــرض هيمنتها، وتعزيز نفوذها ضمن محور مقاومة االحــــــتــــــالل، واســــتــــخــــدام املليشيات املـــؤتـــمـــره بــأمــرهــا، وتــوجــيــهــهــا أنى شاء ت مصالحها وأطماعها وعبثها. وإزاء هذه املواقف الرافضة ألية مقاربة واقـــعـــيـــة لــحــل األزمـــــــــات، وضـــبـــﻂ السلم واألمـن واالستقرار وإيصال املنطقة إلى بر األمــــان، هـنـاك قـلـق دولـــي وإقـلـيـمـي حقيقي من تفاقم األمور، وقيام إسرائيل بمغامرة رعناء، وتوسيع نطاق الـحـرب القائمة، وإدخـــال املنطقة فـي بحر متالطم من الصراعات والنزاعات التي تمس جميع دول املنطقة، السيما الوطن العربي واملواطن العربي بالدرجة األولى. إن مــا تــقــوم بــه تــلــﻚ األنــظــمــة مــن مــشــاكــســات، عــبــر وكالئها اإلقليميني، يجسد رغبتها فــي إرســـال رســائــل للغرب بأنها تستطيع خلق االضطرابات، والتحكم بمزاج املنطقة، وعليهم الــتــعــامــل مـعـهـا فــي ضـــوء ذلــــﻚ. فـعـلـى سـبـيـل املـــثـــال، يالحﻆ املـراقـب انـخـراط مليشيات الحوﺛيني في حـرب غـزة من خالل شن الهجمات على السفن التجارية في البحر األحمر ومضيق بـاب املندب، أو إطـالق بعﺾ الصواريخ من سوريا أو لبنان على إسرائيل، أو استخدام الطائرات املسيرة، كما جرى يوم األحد ٨2 يناير 202٤ الستهداف القاعدة العسكرية األمريكية على الحدود األردنـيـة - السورية، الـذي أسفر عن مقتل ﺛالﺛة جنود أمريكيني وجرح نحو ٤3. من املؤكد أن أمريكا سوف ترد على هذا الهجوم، ولكن بضرب مواقع في الدول العربية، مع علم واشنطن أن األوامر صادرة عن طهران التي نفت، كعادتها، ضلوعها في هذا الهجوم. إيـران تحاول بني الفينة واألخــرى استعراض عضالتها، كما فعلت شرقًا، حني قـام الحرس الـثـوري بتاريخ ٦١/١/٤202 بـضـرب مـنـاطـق فــي بـاكـسـتـان يـتـواجـد فيها )جـيـش العدل(، وهو مجموعة سنية بلوشية، إال أنه «ليس في كل مرة تسلم الــجــرة»، حيث جـاء الــرد الباكستاني سريعًا بضرب املناطق اإليرانية، لردعها وإفهامها بأن باكستان دولة قوية، وليست كغيرها مـن دول املنطقة الـتـي تستطيع طـهـران العبث بها. وكادت األزمة تتفاقم لوال تدخل الوساطة الصينية العتبارات استراتيجية واقتصادية ونزع فتيل األزمة. إيران دأبت على افتعال األزمات وتوظيف التوترات لصالحها، ولكن وفق ضوابﻂ، خصوصًا أنها حاليًا لم تعد تعول على الحلف الثالﺛي التركي اإليراني الروسي الـذي كان قائمًا في اتـفـاقـيـات )ســوتــشــي( لتقسيم ســوريــا الـعـربـيـة، بـعـد انشغال روسيا في حربها بأوكرانيا. ما أكثر املشاريع التي تحاك ضد الدول العربية، كما يتجلى مـــن مــخــطــطــات تـفـتـيـت ســـوريـــا والــــســــودان ولــيــبــيــا واليمن، وإشعال فتيل األزمات في كل ركن وزاوية. ومن املؤسف أن هناك بعﺾ دول املنطقة تسهم في ذلـﻚ عن وعي أو غير وعي، ما يجعل الدول العربية املتضرر الـوحـيـد، فـال إيـــران تــضــرب، وال تركيا تعاقب، وال إﺛيوبيا تمس، وهي الـــتـــي أشــعــلــت مـــؤخـــرًا أزمــــــة جديدة فـــي الــصــومــال عــبــر تــوقــيــع اتفاقية بربرة مع املتمردين في «دولــة أرض الصومال» ملدة خمسني عامًا ألغراض تـــجـــاريـــة، وتــــعــــاون عـــســـكـــري، مقابل االعتراف بأرض الصومال. هــــذه االصــطــفــافــات الــجــيــوســيــاســيــة تم رفضها من قبل الجامعة العربية باعتبارها تمس بالثوابت العربية األفريقية، وتتعارض مــع الـقـانـون الــدولــي وســيــادة الــــدول، وتــزيــد مــن حدة التوتر في املنطقة. وأمــــــــام هـــــذا الـــــواقـــــع الـــســـيـــاســـي، والـــديـــنـــامـــيـــات الجديدة، واملــمــارســات الـدولـيـة، وأزمـــة التحالفات املـتـداخـلـة وصناعة الـتـوتـر، وعــواصــف املـتـغـيـرات.. وغـيـرهـا كثير، تـغـدو منطقة الشرق األوسﻂ غارقة في أزمات دائمة وتشﻆ مستمر يستنزف مقوماتها، ويؤﺛر على استقرارها. وإزاء هذه املتغيرات املتسارعة، والتطورات الخطيرة، قد يكون من األجدى االستفادة من إعادة االعتبار للقضية الفلسطينية الذي تبلور من جراء مﺂسي الحرب الطاحنة في غزة، والعمل على إقناع املجتمع الدولي بأن الوقت بات مالئمًا للتوصل إلى حل الدولتني، والتأكيد على أن الحل السياسي هو األفضل، بعد فشل الحل األمني، واالستفادة من السياقات السياسية الدولية ومــا تمخﺾ عــن الهيئات الـدولـيـة ومحكمة الــعــدل الدولية، ملراجعة جديدة وبلورة رؤية مختلفة ومبدعة لقضايا املنطقة، وإبعادها عن التجاذبات اإلقليمية والدولية، والتعاطي مع التحديات ومجابهة التحوالت بمقاربة واقعية.
إقناع المجتمع الدولي بأن الوقت بات مالئما للتوصل إلى حل الدولتين، والتأكيد على أن الحل السياسي هو األفضل
هناك قلق دولي وإقليمي حقيقي من قيام إسرائيل بمغامرة رعناء