Okaz

حروب استعادة الدولة الوطنية

- يحيى األمير

إلى ما قبل العام 11٠٢ لم تكن الدولة الوطنية في جمهوريات العالم العربي في أحسن أحوالها؛ استشراء واسع للفساد واتساع في مساحة القمع وشبح التوريث يهيمن على كثير من تلك الجمهوريات ومتحقق وواقع في بعضها كما هو الحال في الجمهورية السورية، لكن األخطر من كل ذلك هو ما حدث في العام 11٠٢. كادت الفوضى تأتي على كل شيء في مصر وفي تونس وفي اليمن، وأتت بالفعل على كل شيء في سورية، لم تكن الثورات حال ولم تكن كذلك صيرورة طبيعية وكل يوم يتكشف للعالم املزيد عن خفايا تلك األحداث ومخططاتها واملمولني لها والنظريات السياسية التي آمنت بها بعض دوائر القرار في العالم وأرادت تطبيقها واقعا واستخدمت في ذلك دوال وجماعات من املنطقة. بينما كانت امللكيات في الخليج وفي املغرب أيضا تـدرك أنها في منأى عن الثورات الطبيعية وذلك النعدام أسبابها، إال أن كونها ثورات مفتعلة ومخططة وغير واقعية جعل تلك امللكيات تدرك مبكرا أن ما يحدث هو حرب على الدولة واستهداف للتركيبة السياسية في املنطقة. لقد كانت تلك الثورات حربا من نوع آخر تتكئ على نظريات سياسية غير واقعية آمنت بها النخبة الحاكمة في واشنطن آنذاك وتحركت وفق محاور خيالية منها: الرهان على اإلسالم السياسي السني (تسميه أدبيات واشنطن آنذاك باإلسالم املعتدل) ومنح مساحة أكبر لإلسالم السياسي الشيعي املتمثل في إيران وصوال إلى النتيجة الحاملة أن ذلك سيطفئ اإلرهاب والصراعات الحضارية وسيقضي على الجماعات الحركية بما أنها أصبحت أنظمة وحكومات. أدركنا فورا في اململكة والخليج أن كل ما يحدث هو حرب حقيقية على الدولة الوطنية، وألننا ندرك أن األيديولوج­يات يمكن أن تصنع جماعة أو حزبا أو ميليشيات لكنها ال يمكن أن تصنع دولة وطنية، يومها اتخذ القرار الجريء الواضح بمواجهة تلك الحرب بل واالنتصار أيضا، عادت مصر وهدأت تونس واستكمل الصراع دوائره في أماكن متفرقة في املنطقة العربية. كل الــدول التي هـدأت هي تلك التي تمت بها محاصرة جماعات اإلســالم السياسي ولـم تحصل على السالح وال على املال فاستعادت الدولة الوطنية مكانتها كما حدث في مصر، بينما تدخلت جماعات اإلسالم السياسي الشيعي والسني في سورية فانهارت وفي اليمن فقامت الحرب وفي ليبيا كذلك. كنا ندرك أن تلك النظرية السياسية التي جعلت من الثورات أبرز وأهم أدواتها ستعلن انهيارا فعليا في الـدولـة الوطنية وتستهدف كل دول املنطقة وستعيدها إلـى ما قبل التاريخ الحديث وستعلي من شأن اإليديولوج­يا والطائفية وهو ما بدأت مظاهره تتضح في املنطقة. كانت مصر محطة االستهداف األهم لتلك املعركة وكانت بالنسبة لنا محطة االستهداف األبرز لدعم وحماية واستعادة الدولة الوطنية، وإذا ما صلحت مصر أمكن للمنطقة إدارة بقية امللفات وهي أكثر قوة، وهــذا ما حـدث وتحقق واقـعـا، عــادت الـدولـة الوطنية املصرية التي لديها عقيدة واحــدة وقيمة واحدة هي الوطن والدولة وليست الجماعة وال الحزب. كان النظام القطري بإعالمه وسياسته وأمواله أبرز األذرع التنفيذية لتلك املعركة ووكيلها املباشر في املنطقة وهو ما حتم على دول املنطقة أن تصل معه لقرار املقاطعة العادل. دعمت إيران الفوضى في البحرين ضد النظام هناك وتدخلت لدعم النظام في سورية، كان هذا التصرف أبرز شاهد لخطأ السياسة األمريكية آنذاك في الرهان على الدول والجماعات املتطرفة، انهارت الثورة في سورية وأصبحت معركة مفتوحة ذلك أن النظام اإليراني الطائفي ال يمكن أن يضحي بحليف طائفي واستخدم لذلك أسوأ أذرعـه وأكثرها تطرفا في املنطقة وهو حزب الله، خذلت إيران أوباما في مشروعه وأفسدت نظريته وذلك مصير كل من يراهن على األيديولوج­يا والطائفية، وهو ما يفسر تلكؤ إدارته أمام امللف السوري. كل ما يحدث اليوم في املنطقة هو للملمة آثار ذلك الخراب وفي ذات الوقت للحفاظ على الدولة الـوطـنـيـ­ة واســتــعـ­ـادتــهــا؛ ألنــهــا الــرهــان والــنــمـ­ـوذج الــوحــيـ­ـد الــقــادر عـلـى الــحــيــ­اة وتـحـقـيـق األمن واالستقرار في املنطقة: في اليمن قوات التحالف تدعم الشرعية من أجل استعادة الدولة الوطنية أمــام امليليشيات، وفـي لبنان ستستمر املواجهة من أجـل تخليص الـدولـة اللبنانية من سيطرة واحتالل حزب الله، وفي قطر تتم معاقبة النظام املتورط إلى النخاع في تلك الفوضى حني لم يتغير سلوكه رغم تغير املرجعية العاملية التي بثت ورعت تلك النظريات الثورية في املنطقة. هــذه حـــروب مستمرة لــن تـهـدأ إال حــني ينتصر املـنـطـق وتتحقق املــعــاد­الت الطبيعية الكونية الحضارية التي نـحـارب لها ومــن أجلها سعيا للحفاظ على الكيانات الوطنية التي بنيناها وبنينا معها طموحا يتجاوز أفكار ما قبل الدولة الوطنية وينتصر عليها. إنها مواجهات من أجل حماية وترسيخ الدولة الوطنية في وجه الطائفية والحزبية والحركات األصولية، وأيضًا النظريات السياسية غير الواقعية.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia