Asharq Al-Awsat Saudi Edition

شرق الفرات: حل سياسي أو أكثر من إدارة ذاتية

- حنا صالح

عـــلـــى مـــــــدى أكــــثـــ­ـر مـــــن شــهــريــ­ن انشغل العالم بتغريدة الرئيس ترمب عـن الانـسـحـا­ب الأمـيـركـ­ي الشامل من سوريا، وانشغل المتدخلون في الحرب على الشعب الـسـوري، كـلٌ على حدة، بـكـيـفـيـ­ة الاســتــف­ــادة مــن مـــلء الــفــراغ. الــــروسـ­ـــي أراد بــســط ســيــطــر­ة نـظـام الأســـد لـتـضـمـن شـركـاتـه إعــــادة ضخ النفط والغاز وزيادة إمساكه بالأوراق السورية، وباع الحركة الكردية كلاماً مـعـسـولاً. الإيــرانـ­ـي دفــع بميليشيات إضــافــيـ­ـة إلـــى غـــرب الــبــوكـ­ـمــال وديــر الزور؛ فاللحظة اقتربت لإقامة الجسر البري لربط طهران بالمتوسط، والباقي تفاصيل. التركي الذاهب إلى انتخابات بلدية مقلقة وجد مشروعه بـ »المنطقة الآمــــنـ­ـــة« قـــــاب قـــوســـي­ن أو أدنــــــى مـن التحقق. حتى النظام السوري الُمبعد عن أي بحث بمصير سوريا استخف بــاقــتــ­راح الــنــقــ­اط الــعــشــ­ر المـــقـــ­دم مـن »قـوات سوريا الديمقراطي­ة«، وأظهر أنه لم يغادر تعنته المعروف المستند إلــى الـتـحـريـ­ض الإيــرانـ­ـي والتشجيع الروسي فخسر ورقة مهمة.

العروض التركية وتذاكي إردوغان الذي اقترب من موسكو بقدر ابتعاده عن حلف الأطلسي، أقلقت الأميركيين وبـدت مفضوحة مناوراته لاستدراج العروض. بدا هاجس أنقرة المحوري، وهــي الـتـي كــان لها الـيـد الـطـولـى في رعــايــة صـعـود »داعـــــش«، الـرغـبـة في ســحــق الـــوضـــ­ع الــــكـــ­ـردي واســتــثـ­ـمــار ذلــــك انــتــخــ­ابــيــاً، فـــي ضــــوء الـتـعـبـئ­ـة عـــلـــى فـــرضـــي­ـــة وجـــــــو­د خـــطـــر كــــردي مستقبلي على الأمن القومي التركي... والاســتــ­ثــمــار فــي إرهــابــي­ــي »داعــــش« و»النصرة« من إدلب إلى شرق الفرات، لتأبيد الاحـتـلال التركي بواجهة من »الإخــــوا­ن المـسـلـمـ­ين« وشِـلـل الإرهــاب الــتــي تـنـاسـلـت مــن تـحـت عـبـاءتـهـ­م؛ فـتـكـون لأنــقــرة الـحـصـة الـــوازنـ­ــة في »التسوية« السورية والهيمنة.

لـم يتأخر الـوقـت على واشنطن، التي لن تبقي على وجودها العسكري فــي ســوريــا إلـــى مــا لا نــهــايــ­ة، حتى تيقنت أن نجاح العقوبات على النظام الإيراني وميليشيات قاسم سليماني، تــفــتــر­ض رؤيـــــا مـخـتـلـفـ­ة لــ »المـنـطـقـ­ة الآمـنـة« كـأن تكون منطقة عـازلـة دأب قادة البنتاغون على الترويج لها، ولا سيما قائد المنطقة الوسطى الجنرال جـــوزيـــ­ف فــوتــيــ­ل كــمــا الــجــنــ­رال بــول لاكـامـيـر­ا. رؤيــة سـداهـا ولحمتها أن الـخـروج دون ترتيبات مضمونة مع الحلفاء الأوروبيين شيك على بياض يدعم محاولات طهران الالتفاف على الــعــقــ­وبــات، وربــمــا هــديــة عـلـى طـبـقٍ مـن فـضـة لإرهـابـيـ­ي »داعــــش«، سـواء أكانوا وحدات نائمة أم ذئاباً منفردة لأن يـسـتـعـيـ­دوا حــالــة هـجـومـيـة من جـديـد؛ لأن »وحــدات حماية الشعب« الــقــوة الـرئـيـسـ­يـة فــي »قــــوات سـوريـا الــديــمـ­ـقــراطــي­ــة« ســتــكــو­ن أولــويــت­ــهــا المـواجـهـ­ة الممكنة مـع الجيش التركي والمـجـمـو­عـات التابعة لـه، الـتـي تهدد بتكرار تجربة عفرين، لكن هـذه المرة عـلـى مـسـتـوى أكـبـر، فتستبيح المـدن والـــبـــ­لـــدات وتـــدمـــ­ر وتــنــهــ­ب وتــحــرق وتــقــتــ­ل وتــغــتــ­صــب وتـــهـــجّـــر، وهـــذه مخاوف رددهـا الأكــراد في محادثات أجروها في كل العواصم مرفقة بأعمال موثقة عن استباحة المحتل لعفرين!!

تـعـديـل جـــذري أعـلـنـتـه واشـنـطـن تمثل بـقـرار الإبـقـاء على ٤٠٠ ضابط وجندي، منهم ٢٠٠ في قاعدة التنف قـــــرب المــثــلـ­ـث الــــســـ­ـوري - الأردنــــ­ــــي – الــعــراق­ــي، والـبـقـيـ­ة فــي شــرق الــفــرات. رجـــح الـسـيـنـا­تـور لـيـنـدسـي غــراهــام أن يــنــضــم إلــيــهــ­م نــحــو ألــــف جـنـدي أوروبــــي، قــال الـبـنـتـا­غـون إنـهـم الـقـوة التي »ستنشئ منطقة آمنة تخلو من أي قوات تركية أو من قوات المعارضة التي تدعمها تركيا،« وأفضل تشبيه لهذه القوة هي أنها ستكون قوة فصل تـضـمـن الــحــدود بــين »قــــوات سـوريـا الــديــمـ­ـقــراطــي­ــة« والــجــيـ­ـش الــتــركـ­ـي، وستتمتع هذه المنطقة بحماية جوية أكيدة؛ ما يثبت الاستقرار ولا يضعف الـنـشـاط الأمـنـي الـكـبـيـر المـطـلـوب من »قسد« لتعقب وكشف خلايا الإرهاب النائمة؛ لأن هذا العمل هو ما سيمنع ظهور »داعش« مجدداً.

الجديد الأميركي بشأن الوضع في شرق الفرات أزعج المتدخلين فراح وزيـــــر الــخــارج­ــيــة الـــروســ­ـي لافــــروف يــتــحــد­ث عـــن احـــتـــل­ال أمــيــركـ­ـي دائـــم للشمال والـشـرق الـسـوريـي­ن، قـبـل أن يــعــرض نـشـر الـشـرطـة الــروســي­ــة في المنطقة الآمنة، وهو عرض تأخر كثيراً، ولا يــدخــل فــي حــســاب الأمـيـركـ­يـين؛ لأن الــــــوض­ــــــع تـــــبـــ­ــدل مــــــع الـــتـــو­جـــه لإيــجــاد قــوة ســـلامٍ دولــيــة، وصمتت الأبـواق الإيرانية التي وصفت القرار الأمــيــر­كــي الأولــــي بـالانـسـح­ـاب بـأنـه أشبه بالهزيمة، وعاد إردوغـان الذي لــم يـنـجـح فــي تـسـويـق رؤيــتــه للزعم بحقوقٍ تركية في نشر قواتها، ومن ثــم الـتـلـويـ­ح بـالـتـدخـ­ل اســتــنــ­اداً إلـى اتفاقية أضنة وإلى التهديد بخطوات مــنــفــر­دة وهــــو يــــرى انــكــســ­ار أحـــلام هـيـمـنـة الـعـثـمـا­نـيـة الــجــديـ­ـدة، فــراح يـبـتـز أوروبـــــ­ــا بـتـسـونـا­مـي لاجــئــين؛ لأنــه إذا لـم تُنشأ هــذه المنطقة داخـل سوريا وبـإشـراف تركيا ودعـم مادي ولوجيستي أوروبـــي بـذريـعـة إعــادة مـلايـين الــســوري­ــين مــن تـركـيـا، فــــ »إن المـشـكـلـ­ة سـتـمـتـد إلـــى أبــــواب أوروبـــا إن عــاجــلاً أو آجـــــلاً!!« هــذا مــع العلم أن تـركـيـا الـتـي تـعـلـن أن حـل مشكلة اللاجئين تكون بـالإيـواء فـي الشمال السوري، لم تنفك تستغل ورقة اللجوء لابتزاز العالم ولم تسمح ولو لنسبة ضـئـيـلـة مـنـهـم بــالــعــ­ودة إلـــى منطقة »درع الـفـرات« الـتـي يحتلها الجيش السوري وتزيد مساحتها على خمسة آلاف كلم مـربـع، أي مـا يـعـادل نصف مساحة لبنان!!

مـــــن الــطــبــ­يــعــي الآن أن يـــــؤدي الـوضـع المستجد، مـع بـدء التحضير لنقاط تمركزٍ أساسية في رأس العين، تــل أبــيــض، مـنـبـج، الـقـامـشـ­لـي وعـين العرب - كوباني، إلى تغيير مهم في طبيعة عمل قــوات التحالف الـدولـي بعد انـتـهـاء المـواجـهـ­ات المـبـاشـر­ة مع إرهــابــي­ــي »داعـــــــ­ش«. انـتـهـت مـرحـلـة مواكبة »قـوات سوريا الديمقراطي­ة« فـي العمليات لتبدأ مرحلة المشاركة في تكريس الأمن واستتبابه، وحماية المنطقة التي تزيد مساحتها على ثلث مساحة سوريا. لكن ما يثير الاهتمام يــكــمــن فــــي مــعــرفــ­ة أبــــعـــ­ـاد الــجــهــ­ود الأمـيـركـ­يـة والـدولـيـ­ة لتوسيع قاعدة الإدارة الذاتية في المنطقة عبر ما يدور من مفاوضات لإشراك قبائل وجهات عـربـيـة مــا زالــــت خــارجــهـ­ـا، وأســاســاً السعي لإنـجـاز خـطـوات حثيثة على طـريـق المـصـالـح­ـة الـكـرديـة الصعبة، بين حـزب العمال الكردستاني القوة الــرئــيـ­ـســيــة عــلــى الأرض والمــجــل­ــس الـــوطـــ­نـــي الــــــكـ­ـــــردي، الـــــــذ­ي تــتــبــع لـه فـصـائـل البيشمركة الـسـوريـة (نحو ٦ آلاف) المـــتـــ­مـــركـــز­ة فــــي كــردســتـ­ـان العراق، وربما كان نجاح هذا المسعى يتطلب جهداً مـن سلطات كردستان الـعـراق، ولا سيما مسعود بـارزانـي. هذا الوضع من شأنه أن يفتح الباب على بدء ورشة إعمار في المنطقة التي شهدت أوسع المواجهات مع »داعش«، ويحكى عن وعود أميركية وأوروبية بإعادة الأعمار والتنمية.

المنحى الأميركي الجديد سيؤدي إلــى ضـمـان وضــع شــرق الــفــرات كما كان؛ ما سيقطع الطريق على محاولة روســيــا الـسـيـطـر­ة عـلـى المـنـطـقـ­ة عبر جيش النظام السوري، كما يخرج من المعادلة تركيا وأهداف التوسع التركي عــلــى حـــســـاب ســـوريـــ­ا والـــســـ­وريـــين، وهـذا الوضع سيشكل ورقـة الضغط على الجانب الـروسـي الـذي لـم يدفع بـشـكـل جــــدي مــســار الــتــســ­ويــة، ومــا زالـت موسكو تتغاضى عن العراقيل الإيـــران­ـــيـــة وتــغــطــ­ي عــراقــيـ­ـل الـنـظـام الـــســـو­ري وتــنــقــ­ل اشــتــراط­ــاتــه، فـإمـا يـشـكـل هـــذا الــوضــع حــافــزاً للضغط عـلـى الـــروس وعـلـى دمـشـق لـلـخـروج من المنطقة الرمادية وبدء المفاوضات لتحقيق تسوية سياسية، وإما يأخذ الوضع منحى آخـر أقـل بالتأكيد من الحكم الـذاتـي فـي كـردسـتـان الـعـراق، وأكــثــر مــن مـسـتـوى الإدارة الـذاتـيـة الـحـالـيـ­ة الــتــي فــي ظـلـهـا بـــدأ لـلـمـرة الأولـــــ­ى فــي ســوريــا اعــتــمــ­اد مـنـاهـج تدريس باللغة الكردية، وإدارة أعمال اقتصادية تتسع أفقياً وعمودياً، ولا عـــلاج تـسـتـعـيـ­د مـعـه ســوريــا وحــدة حقيقية إلا مـن خـلال حـلٍ يرضي كل السوريين عبر مسار جنيف، قاعدته تــســويــ­ة مــســتــد­امــة، وخـــــروج الــقــوى الأجنبية من سوريا، وإنهاء الأطماع المزدوجة لتركيا وإيران.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia