مَƪن يُعيد للديوك ألوانها؟

في حوش بيتنا، الزاهي ببياض حصبائه، التي صقلتها أمواج البحر عندما كانت تقذفها على حافات السواحل، والمؤطر بجدرانه الحجرية الأربعة المطلية بالجِصّ(1) -قبل أن تعرف منازلنا أصباغ »البويا« وروائح »التنر« والمعجون- ما زلت أذكر جدتي -تغمدها الله برحمتهبظهرها المُحدودب، وثنايا وجهها المشرق مع إشراقة شمس كل يوم.

ما زلت أذكر مصطلحها اللغوي الدجاجي »قِط.. قٍط.. قط« الذي ما يكاد الدجاج -مع ولي أمرهن الديك- يسمعنه حتى يتحلقن حولها، ويتوددن إليها بحميمية خالية من الزيف، لتنثر أمامهن حبات الذرة، أو حبات الحنطة، وهن يلتقطنها بمناقيرهن المشرعة، طلبا لما يملأن به حويصلاتهن، وأحيانا ينبشن بأصابع أرجلهن ثنايا الحصى نبشًا أنيقًا، ليستخرجن ما اختبأ من الحبوب بين ذرات التراب.

كنت أرافق جدتي في هذه الصباحات المتفائلة بالخير، وأشاركها -أحيانا- في إطعام دجاجاتنا، وأمنح ناظري حرية الاستمتاع بجمالهن المرقش بمختلف الألوان بين أبيض، وأحمر، وأسود، وأكثر ميلي كان إلى بعض الدجاجات التي يتداخل في ريشهن جميع الألوان.

أكثر ما كان يغيظني أنانية ديكنا العشاري، الذي كان لا يسمح لأي ديك آخر

-من ديكة الجيران- بأن يشاركه في الاستعراض أمام دجاجاته، أو التودد إلى إحداهن، والويل كل الويل للديك الغريب إن حدثته نفسه بالاقتراب من دجاجات ديكنا، الذي يتبختر مزهوًا بألوان ذيله المنفوش، المصحوب بفرد جناحيه كإيحاء لإحدى دجاجاته المحظوظات.

في حوشنا الواسع، كانت تنتصب منصة خشبية -ذات قوائم طويلةنطلق عليها مسمى »منامة«، تأوي إليها دجاجات جدتي -مع ديكهنبعد مغرب شمس كل يوم، وعادة ما تكون تلك المنامة شاهقة الارتفاع، والهدف من ذلك حمايتهن من »الدرين«، الذي يشاع عنه أنه يمرغ ذيله الكثيف الشعر في مائهِ ثم يمرغه في التراب، وينثره في عيون الدجاجات حتى تسقط إحداهن على الأرض لتكون فريسته.

قبل زمن الساعات، كانت جدتي تثق في صياح ديكها الذي يكون نذيرًا باقتراب أذان الفجر، وعندها، كانت تطرد من عينيها بقايا النعاس، وتتهيأ للصلاة. تداعت إلى ذهني كل هذه الخواطر، عندما كنت بجانب مزرعة للدواجن، لأجد أن اللون الواحد قد ألغى جميع الألوان، ولم أجد ديكا واحدا يتوّج رأسه ذلك العرف الغارق في حمرته الذكورية، وحينها لم أملك سوى عبارة واحدة تتردد على شفاهي مصحوبة بالحسرة: »من يعيد للديكة ألوانها ؟!«.