هل هي حرب عالمية رقمية؟
بحلول الذكرى الـ 79 النتهاء الحرب العاملية الـــثـــانـــيـــة، بــعـــــد انـــتـــصـــار الـــحـــلـــفـــاء عـــلـــى دول «مـــحـــور الــــشــــر»، يــقــف الـــعـــالـــم الـــســـاعـــة على مــشــارف طــي ثمانية عـقـود على تلك الحرب املـدمـرة. إن أقاما عديدة ترى في الصراعات والــحــروب املـسـتـعـرة، هـــذه اآلونـــة، نـــــذر حـرب عاملـيـة ثالثة، ال تشبه في طبيعتها الحروب الـتـاريـخـيـة الــســابــقــة، بــــدأت تــلــوح فــي األفـــق. فهل تلك نظرة حملت مصـداقـية معتبرة، أم هي تبسـيط مخل لواقع معقد، أم هو تهويل ألوضاع طارئة سرعان ما تطوى صفحاتها، ويــــعــــود الـــــوئـــــام الـــكـــونـــي إلـــــى حــــالــــه، فــيــعــم االستقرار، مستداما راسخا؟ لن يفوت على نظر املراقب أن يرصد أن نصف تلك العقود الثمانية، التي مــرت منذ انتهاء الـــحـــرب الــثــانــيــة فـــي عــــام ،1945 قـــد تــلــونــت بـســـخـونـة حــــرب بـــــاردة تخللتها مـواجـهـات تــكــاد تــكــون مــــحــــدودة، وتـــهـــديـــدات مـتـبـادلـة
ٍِ لكنها محكومة بتوازنات الـقـوى، فلم يفض ذلك الحال بالعالم إلى حرب عاملية ثالثة. أما النصف الثاني من العقود الثمانية والبشرية تـــدلـــف إلــــى ألـفـيـتـهـا املـــيـــاديـــة الــثــالــثــة، فقـد شـهـدت سـنواتها تنافسا حـــادًا بـني مختلف أطـــــــراف املــجــتــمــع الــــدولــــي بــقــصــد الــســيــطــرة الــســيــاســيــة عـــلـــى مــــواقــــع املــــــــوارد والــــثــــروات الطبيعية، وذلك ما دفع األقوياء إلى االنخراط فـــي الــتــســابــق نــحــو الــتــســلــح الــــــــرادع لحفظ الــتــوازن فيما بينهم، وبقـي العالم األضعف شأنا يستميت لنيل حظه من التقدم العلمي، وامتاك التقنيات التي تعينه في ذلك السباق املحموم، فا يكاد ينال مطلبه. ولئن شهدت العقـود الثمانيـة األخـيـرة، املشار إلــيــهــا، تــفــوقــا حـقـقـتـه اإلنــســانــيــة فــي الـعـلـوم كافة، خاصة في استكشاف الفضاء وعلومه، وفـي اتساع استغاله لتيسير التواصل بني البشر، فقد دلف العالم في ألفيته الثالثة، إلى حالة من التقارب االفتراضي، جعل الكون كله أقــرب ألن يتحول قرية مكشــوفة على جميع ســاكنيها. ألغى ذلـك التقارب الكوني املسافات االفتراضية، فانكمشـت جغرافيا املكان بحكم متغيراتها، ولكن بقي كل من التاريخ والزمان حـاضرين بقـوة الديمومة والثبات. لم تتغير قـوانـني لعبة التنافس، ومـــوارد الـكـون آخـذة فـــي الــتــنــاقــص، فـيـمـا بـــــرزت تــحــديــات أخـــرى جاء ت بها الطبيعة ومتغيراتها، كما تسببت في تفاقم مخاطرها تعديات اإلنسان عليها، وتصاعد مساعيه للسيطرة وبسط النفـوذ. تــلـــــك هــــي ثــــوابــــت الــــتــــاريــــخ الـــبـــشـــــــري، الــــذي تتأرجح فيه أقـداره، بني استقرار واضطراب، بني حــروب دانية وســام نــاء. برغم ما تيسر
لـلـبـشـريـة مــن إمــكــانــات الــتــطـــــور، ومـــن تمكن موجبات الحداثة واستشراف مستقبل معتم املعالم، إال أن الجنوح نحو التنافـس لـم يبـق على حاله، بل تفاقم واستشرى مستصحبا معطيات أشــد تعقيدًا، ومــنــاورات أكـثـر حــدة في استغال حام للواقع الكوني الجديد، الذي أتاحته ثورة االتصاالت. وتلك ثورة أوصلتنا إلـيـهـا أوديــــة الـرقـمـيـات االفـتـراضـيـة مــن نـوع «وادي السيليكون» فـي األصـقـاع األميركية، بابتداعات تجاوزت الذكاء البشري الطبيعي إلى الذكاء االصطناعي املخيف. ولقد أفزعنا
ّّ بـــعـــض عـــلـــمـــاء يـــــروجـــــون ملـــرحـــلـــة لــــن تــكــون بعيدة في ظنهم مما أسموه مرحلة «ما بعد اإلنسان». مـــــن تـــــداعـــــيـــــات ذلـــــــــك الــــتــــنــــافــــس الـــســـيـــاســـي
ٌْ واالقـــتـــصـــادي املـــحـــمـــوم، صــــراعــــات وحـــــروب تـــجـــاوزت طبيعتها التقليدية، الـتـي شـاعـت فـي سابق عهود الحربني العامليتني، األولــى والــثــانــيــة، فــي ســنــوات الــقــرن الــعــشــريــن. إنــك لـن تـرى الساعة فـي الـحـروب الحداثية، التي نتابع مجرياتها عبر الفضائيات، مواجهات مـبـاشـرة بيـن عسكريني مـدجـجـني، بالساح أو بني مــدرعــات ومـجـنـزرات عسكرية تواجه بـعـضـهـا بــعــضــا، إال فـــي نــطـــــاق مـــحـــدود، بل يــنــظــر إلــيــهــا مـــمـــارســـات تــقــلــيــديــة مـتـخـلـفـة سيعفو عنها الزمن ال محالة.
صـــارت املــواجــهــات واالشــتــبــاكــات العسكرية تـــــدار رقـــمـيـا مــن مــقــار بـعـيـدة، لــكــأن الــوجــود الجغرافي والطوبوغرافي صـار وهما يرسم في أوراق. لقد تجاوزت القدرات االفـتراضية لــــلــــحــــواســــيــــب تــــلــــك الــــــوقــــــائــــــع الــــجــــغــــرافــــيــــة املحسوسـة، وباتت تتحكم رقميـا عـن بعد، بل تدير املعارك والحروب بكفاءة غير مسبوقة. مثل تلك القدراِت واملهاراِت ال تقارن بتلك التي ملكتها جيوش الحلفاء فـي بواكير سنوات الــــحــــرب الـــعـــاملـــيـــة الـــثـــانـــيـــة، وحـــقـــقـــت عــبــرهــا انتصاراتها على دول املحور، والتي يتفاخر املنتصرون هـذه األيام بذكراها الـ 97، مثل ما شــاهدنا مــن استعراضات جيوش روسيا في شـوارع موسكو، لكأن الرئيس بوتني يتوعد أوكـــرانـــيـــا بـــإصـــرار: إيـــــاك أعــنــي فــأبــصــري يا جارة. هـــكـــذا، يــأخــذنــا الــعــصــر املـــاثـــل مـــن مـــبـــارزات تــقــلــيــديــة، عـــرفـــت غـــــــــدارات وبــــنــــادق ينطلق
ُُّ رصاصها نحو أهــداف من بعد بضعة أمتار
ٍُ كــمــا فـــي حـــقـــب بـــــــادت، إلــــى مـــســـــــيـــرات تــعــبــر بــمــقــذوفــاتــهــا املــحــمــولــة جـــــوًا آالف األمـــيـــال، لـتـدمـر أهـدافـهـا فـي الـــزمـن القياسي املــحــدد، وبـــالـــدقـــة الــرقــمــيــة املــتــنــاهــيــة. إن املـنـجـنـيـق الــرقــمــي يـمـلـك قـــــــدرات ال تــقــارن بـمـا جـــاء في الــتــاريــخ الـقـديـم عــن املنجنيق التقليدي في جــاهــلــيــة الــــحــــروب. إلن جــــاز لــنــا أن نـسـمـي األشــــــــيــاء بمسمياتها املــجــازيــة، فــــإن الــذكــاء االصـطـنـاعـي هــو نـتـاج الـعـلـم الـبـشـري، الــذي ابــتــدعــه، وهـــو ذكــــاء مـحـايـد يـظـل بـيـد البشر ليكون ذكاء خيرًا أو شريرًا وفق إرادة مالكه. غير أن الـحـروب التي نتابع مجرياتها، هي حروب مصالح ٍُ وأجندات،وسيحدث التاريخ، يوما ليس ببعيد، عن املحرضني واملتواطئني والصامتني في أتونها.
الحروب التي نتابع مجرياتها، هي حروب مصالح وسيحدث التاريخ عن الُمحّرضين والمتواطئين والصامتين في أتونها