Al Araby Al Jadeed

هل هي حرب عالمية رقمية؟

- جمال محمد إبراهيم

بحلول الذكرى الـ 79 النتهاء الحرب العاملية الـــثـــا­نـــيـــة، بــعـــــد انـــتـــص­ـــار الـــحـــل­ـــفـــاء عـــلـــى دول «مـــحـــور الــــشـــ­ـر»، يــقــف الـــعـــا­لـــم الـــســـا­عـــة على مــشــارف طــي ثمانية عـقـود على تلك الحرب املـدمـرة. إن أقاما عديدة ترى في الصراعات والــحــرو­ب املـسـتـعـ­رة، هـــذه اآلونـــة، نـــــذر حـرب عاملـيـة ثالثة، ال تشبه في طبيعتها الحروب الـتـاريـخ­ـيـة الــســابـ­ـقــة، بــــدأت تــلــوح فــي األفـــق. فهل تلك نظرة حملت مصـداقـية معتبرة، أم هي تبسـيط مخل لواقع معقد، أم هو تهويل ألوضاع طارئة سرعان ما تطوى صفحاتها، ويــــعـــ­ـود الـــــوئـ­ــــام الـــكـــو­نـــي إلـــــى حــــالـــ­ـه، فــيــعــم االستقرار، مستداما راسخا؟ لن يفوت على نظر املراقب أن يرصد أن نصف تلك العقود الثمانية، التي مــرت منذ انتهاء الـــحـــر­ب الــثــانـ­ـيــة فـــي عــــام ،1945 قـــد تــلــونــ­ت بـســـخـون­ـة حــــرب بـــــاردة تخللتها مـواجـهـات تــكــاد تــكــون مــــحــــ­دودة، وتـــهـــد­يـــدات مـتـبـادلـ­ة

ٍِ لكنها محكومة بتوازنات الـقـوى، فلم يفض ذلك الحال بالعالم إلى حرب عاملية ثالثة. أما النصف الثاني من العقود الثمانية والبشرية تـــدلـــف إلــــى ألـفـيـتـه­ـا املـــيـــ­اديـــة الــثــالـ­ـثــة، فقـد شـهـدت سـنواتها تنافسا حـــادًا بـني مختلف أطـــــــر­اف املــجــتـ­ـمــع الــــدولـ­ـــي بــقــصــد الــســيــ­طــرة الــســيــ­اســيــة عـــلـــى مــــواقــ­ــع املـــــــ­ـوارد والــــثــ­ــروات الطبيعية، وذلك ما دفع األقوياء إلى االنخراط فـــي الــتــســ­ابــق نــحــو الــتــســ­لــح الــــــــ­رادع لحفظ الــتــواز­ن فيما بينهم، وبقـي العالم األضعف شأنا يستميت لنيل حظه من التقدم العلمي، وامتاك التقنيات التي تعينه في ذلك السباق املحموم، فا يكاد ينال مطلبه. ولئن شهدت العقـود الثمانيـة األخـيـرة، املشار إلــيــهــ­ا، تــفــوقــ­ا حـقـقـتـه اإلنــســا­نــيــة فــي الـعـلـوم كافة، خاصة في استكشاف الفضاء وعلومه، وفـي اتساع استغاله لتيسير التواصل بني البشر، فقد دلف العالم في ألفيته الثالثة، إلى حالة من التقارب االفتراضي، جعل الكون كله أقــرب ألن يتحول قرية مكشــوفة على جميع ســاكنيها. ألغى ذلـك التقارب الكوني املسافات االفتراضية، فانكمشـت جغرافيا املكان بحكم متغيراتها، ولكن بقي كل من التاريخ والزمان حـاضرين بقـوة الديمومة والثبات. لم تتغير قـوانـني لعبة التنافس، ومـــوارد الـكـون آخـذة فـــي الــتــنــ­اقــص، فـيـمـا بـــــرزت تــحــديــ­ات أخـــرى جاء ت بها الطبيعة ومتغيراتها، كما تسببت في تفاقم مخاطرها تعديات اإلنسان عليها، وتصاعد مساعيه للسيطرة وبسط النفـوذ. تــلـــــك هــــي ثــــوابــ­ــت الــــتـــ­ـاريــــخ الـــبـــش­ـــــــري، الــــذي تتأرجح فيه أقـداره، بني استقرار واضطراب، بني حــروب دانية وســام نــاء. برغم ما تيسر

لـلـبـشـري­ـة مــن إمــكــانـ­ـات الــتــطــ­ـــور، ومـــن تمكن موجبات الحداثة واستشراف مستقبل معتم املعالم، إال أن الجنوح نحو التنافـس لـم يبـق على حاله، بل تفاقم واستشرى مستصحبا معطيات أشــد تعقيدًا، ومــنــاور­ات أكـثـر حــدة في استغال حام للواقع الكوني الجديد، الذي أتاحته ثورة االتصاالت. وتلك ثورة أوصلتنا إلـيـهـا أوديــــة الـرقـمـيـ­ات االفـتـراض­ـيـة مــن نـوع «وادي السيليكون» فـي األصـقـاع األميركية، بابتداعات تجاوزت الذكاء البشري الطبيعي إلى الذكاء االصطناعي املخيف. ولقد أفزعنا

ّّ بـــعـــض عـــلـــمـ­ــاء يـــــروجـ­ــــون ملـــرحـــ­لـــة لــــن تــكــون بعيدة في ظنهم مما أسموه مرحلة «ما بعد اإلنسان». مـــــن تـــــداعـ­ــــيـــــ­ات ذلــــــــ­ـك الــــتـــ­ـنــــافــ­ــس الـــســـي­ـــاســـي

ٌْ واالقـــتـ­ــصـــادي املـــحـــ­مـــوم، صــــراعــ­ــات وحـــــروب تـــجـــاو­زت طبيعتها التقليدية، الـتـي شـاعـت فـي سابق عهود الحربني العامليتني، األولــى والــثــان­ــيــة، فــي ســنــوات الــقــرن الــعــشــ­ريــن. إنــك لـن تـرى الساعة فـي الـحـروب الحداثية، التي نتابع مجرياتها عبر الفضائيات، مواجهات مـبـاشـرة بيـن عسكريني مـدجـجـني، بالساح أو بني مــدرعــات ومـجـنـزرا­ت عسكرية تواجه بـعـضـهـا بــعــضــا، إال فـــي نــطـــــا­ق مـــحـــدو­د، بل يــنــظــر إلــيــهــ­ا مـــمـــار­ســـات تــقــلــي­ــديــة مـتـخـلـفـ­ة سيعفو عنها الزمن ال محالة.

صـــارت املــواجــ­هــات واالشــتــ­بــاكــات العسكرية تـــــدار رقـــمـيـا مــن مــقــار بـعـيـدة، لــكــأن الــوجــود الجغرافي والطوبوغرا­في صـار وهما يرسم في أوراق. لقد تجاوزت القدرات االفـتراضي­ة لــــلــــ­حــــواســ­ــيــــب تــــلــــ­ك الــــــوق­ــــــائــ­ــــع الــــجـــ­ـغــــرافـ­ـــيــــة املحسوسـة، وباتت تتحكم رقميـا عـن بعد، بل تدير املعارك والحروب بكفاءة غير مسبوقة. مثل تلك القدراِت واملهاراِت ال تقارن بتلك التي ملكتها جيوش الحلفاء فـي بواكير سنوات الــــحـــ­ـرب الـــعـــا­ملـــيـــة الـــثـــا­نـــيـــة، وحـــقـــق­ـــت عــبــرهــ­ا انتصاراتها على دول املحور، والتي يتفاخر املنتصرون هـذه األيام بذكراها الـ 97، مثل ما شــاهدنا مــن استعراضات جيوش روسيا في شـوارع موسكو، لكأن الرئيس بوتني يتوعد أوكـــرانـ­ــيـــا بـــإصـــر­ار: إيـــــاك أعــنــي فــأبــصــ­ري يا جارة. هـــكـــذا، يــأخــذنـ­ـا الــعــصــ­ر املـــاثــ­ـل مـــن مـــبـــار­زات تــقــلــي­ــديــة، عـــرفـــت غـــــــــ­دارات وبــــنـــ­ـادق ينطلق

ُُّ رصاصها نحو أهــداف من بعد بضعة أمتار

ٍُ كــمــا فـــي حـــقـــب بـــــــاد­ت، إلــــى مـــســـــ­ــيـــرات تــعــبــر بــمــقــذ­وفــاتــهـ­ـا املــحــمـ­ـولــة جـــــوًا آالف األمـــيــ­ـال، لـتـدمـر أهـدافـهـا فـي الـــزمـن القياسي املــحــدد، وبـــالـــ­دقـــة الــرقــمـ­ـيــة املــتــنـ­ـاهــيــة. إن املـنـجـنـ­يـق الــرقــمـ­ـي يـمـلـك قـــــــدر­ات ال تــقــارن بـمـا جـــاء في الــتــاري­ــخ الـقـديـم عــن املنجنيق التقليدي في جــاهــلــ­يــة الــــحـــ­ـروب. إلن جــــاز لــنــا أن نـسـمـي األشــــــ­ــيــاء بمسمياتها املــجــاز­يــة، فــــإن الــذكــاء االصـطـنـا­عـي هــو نـتـاج الـعـلـم الـبـشـري، الــذي ابــتــدعـ­ـه، وهـــو ذكــــاء مـحـايـد يـظـل بـيـد البشر ليكون ذكاء خيرًا أو شريرًا وفق إرادة مالكه. غير أن الـحـروب التي نتابع مجرياتها، هي حروب مصالح ٍُ وأجندات،وسيحدث التاريخ، يوما ليس ببعيد، عن املحرضني واملتواطئن­ي والصامتني في أتونها.

الحروب التي نتابع مجرياتها، هي حروب مصالح وسيحدث التاريخ عن الُمحّرضين والمتواطئي­ن والصامتين في أتونها

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar