اإلخوان المسلمون في األردن... قيادة قديمة برداء جديد
أسفرت االنتخابات الداخلية في جماعة اإلخوان املسلمني في األردن (التي أصبح يـصـطـلـح عـلـى تسميتها إمــــا «الـجـمـاعـة املــحــظــورة قـانـونـيـا» أو «الـجـمـاعـة األم»، بــعــدمــا فـــقـــدت رخــصــتــهــا الــقــانــونــيــة من قبل الـحـكـومـة)، عــن انـتـخـاب مــراقــب عــام جديد للجماعة، هو مراد العضايلة، بعد أن نــجــح مــتــقــدمــا عــلــى الــقــيــادي الـعـريـق املــــعــــروف حـــمـــزةّ مــنــصــور بـــفـــارق صـــوٍت واحـــــد. ويــذكــر أن الـعـضـايـلـة هـــو، أيـضـا، األمني العام لجبهة العمل اإلسالمي، لكنه سيتخلى عــن مـوقـعـه لـشـخـص آخـــر إلـى حني االنتخابات التنظيمية القادمة في الــحــزب، إذ ال يـجـوز للعضايلة الـتـرشـح ملــنــصــب فــــي الــــحــــزب مــــــرة أخـــــــرى بـعـدمـا استمر لدورتني أمينا عاما له. املــــفــــارقــــة أن الـــــصـــــراع الــــيــــوم فــــي أروقـــــة الجماعة هـو بـني تـيـار يـقـوده العضايلة وآخـــــــر يــــقــــوده زكــــــي بـــنـــي ارشـــــيـــــد، وكـــال الــرجــلــني كــانــا تـقـلـيـديـا مـحـسـوبـني على الجناح الصقوري في الجماعة والحزب، وكـــان هــذا الـتـيـار يــواجــه جـنـاح الحمائم والوسط في الحركة اإلسالمية، الذي كان يـضـم قـــيـــادات تـاريـخـيـة بــــارزة، مـثـل عبد املجيد ذنـيـبـات، وعبد اللطيف عربيات، وعبد الحميد القضاة، وجميعهم توفوا، بــيــنـمــا انـــشـــقـــت قــــيــــادات الـــتـــيـــار املــعــتــدل األخـــرى بـصـورة جماعية، طـاولـت مئات األشـــخـــاص مـــن الــجــمــاعــة والـــحـــزب، منذ العام ،2015 وأسـس هـؤالء حزبني: زمزم، والشراكة واإلنقاذ. األول، اندمج مع حزب الوسط قبل عامني، وأصبح اسمه اليوم الحزب الوطني اإلسالمي. والثاني، حظر من الحكومة، بعدما اتسم خطابه النقدي بـسـقـف مــرتــفــع (عــلــى األقـــــل، وفـــق تقدير مراكز القرار السياسي). سعى بني ارشـيـد (الـــذي قــام بمراجعات فكرية عميقة، كما أخبرني سابقا، خالل املـرحـلـة الــتــي ســجــن فـيـهـا)، إلـــى أن يمأل فــــراغ الــجــنــاح املــعــتــدل، بـعـد تـالشـيـه من الحركة، فقام بترميم ما تبقى منه، مضيفا إلـــيـــه نــخــبــة مـــن الـــقـــيـــادات فـــي الــجــمــاعــة، الـتـي كـانـت مـحـسـوبـة، سـابـقـا، على تيار الـصـقـور، وضـــم إلـيـه عــديــدًا مــن الشباب، وأطــــلــــق عـــلـــى تـــــيـــــاره الـــجـــديـــد مـصـطـلـح «تــيــار الــوســطــيــة». لــكــن، مــن الـــواضـــح أن غالبية الشباب في الحركة اإلسالمية هم أقــرب إلـى التيار املحسوب على الصقور حــالــيــا (جـــنـــاح الــعــضــايــلــة)، الـــــذي نجح خــــالل االنــتــخــابــات الـتـنـظـيـمـيـة األخــيــرة فـي الحفاظ على موقعه فـي قـيـادة حزب جبهة العمل اإلسـالمـي، واآلن، تمكن من القفز إلى قيادة الجماعة، لكن، في املقابل، يحسب لبني ارشيد أنه تمكن من الصمود رغــــم الــعــقــبــات والـــتـــحـــديـــات الـتـنـظـيـمـيـة الداخلية العديدة التي واجهها (وكان قد تقرر تجميد عضويته في الجماعة قبل أعـــــوام)، واســتــطــاع أن يبقى رقـمـا صعبا فــــي الـــحـــســـابـــات الـــداخـــلـــيـــة. بــاملــنــاســبــة، أوصــــــاف االعــــتــــدال والـــتـــطـــرف والـــتـــشـــدد والــبــراغــمــاتــيــة، هـــي لــغــايــات تصنيفية، الــــيــــوم، لــفــهــم ديـــنـــامـــيـــكـــات االســتــقــطــاب داخــــــل الـــحـــركـــة، لــكــنــهــا لــيــســت أوصـــافـــا علمية دقيقة، ألنــه ال يوجد معيار دقيق وال اخــتــالف أيــديــولــوجــي واضــــح يـمـيـز، مثال، ما بني الصقوري والتيار الوسطي في أروقــة الحركة، وال يوجد خـط فاصل واضـــح سياسيا بــني الـجـنـاحـني، ألنهما يـتـبـادالن مــواقــف الـتـشـدد والــتــراخــي مع الـــســـيـــاســـات الـــرســـمـــيـــة بــحــســب الـلـحـظـة الـــســـيـــاســـيـــة، وضــــمــــن مـــعـــركـــة الــتــنــافــس الـداخـلـي فـقـط، ويمكن أن يصبح «األخ» صـــقـــوريـــا، ويـــمـــســـي «وســـطـــيـــا» ،)!( كما يتندر بعض أعضاء الجماعة. كـانـت الــحــال فــي الـسـابـق مختلفة، فكان هـــنـــالـــك الــــتــــيــــار الــــبــــراغــــمــــاتــــي املــــعــــروف بخطابه العقالني الواقعي، متأثرًا بفكر راشــــــد الـــغـــنـــوشـــي وحـــســـن الــــتــــرابــــي فـي الثمانينيات، ومعهم يوسف القرضاوي، فـــي مــقــابــل تـــيـــار الـــصـــقـــور، الـــــذي كــــان ال يـــــزال مــمــســكــا بـــالـــفـــكـــر الــرئــيــســيــة لسيد قـــطـــب وقـــضـــيـــة الـــحـــاكـــمـــيـــة، ويـــمـــانـــع أي تــــحــــول بـــراغـــمـــاتـــي لــلــجــمــاعــة أو اتـــجـــاه نحو االنـفـتـاح، ووقــف ذلــك التيار سابقا بصورة شرسة ضد تأسيس جبهة العمل اإلسـالمـي (فــي الـعـام ،)1992 ورفــض حل الجماعة حينها، ثم الحقا، قبل بالتحوالت السياسية مع محاولة الحفاظ على بعض القضايا األيديولوجية، بطريقة ال تخلو مـن تناقضات صـارخـة. رغـم أن الجماعة تـمـاسـكـت تنظيميا، ولـــم تـتـأثـر قـدراتـهـا وال شـعـبـيـتـهـا بـــفـــقـــدان جـــنـــاح الــحــمــائــم بالكلية، وعوض بني ارشيد ومجموعته ما يسمى «الـفـراغ املعتدل»، إال أن نزيف القيادات املعتدلة كـان له تأثير في نـواح مــــتــــعــــددة، فــــي صــعــيــد نـــوعـــي أكـــثـــر مـنـه كــمــيــا، وهـــو مـــا نـلـحـظـه مـــن خـــالل األزمـــة املــــفــــتــــوحــــة املـــــســـــتـــــدامـــــة بــــــني الـــجـــمـــاعـــة ومؤسسات الدولة، منذ «الربيع العربي» ،)2011( إلى اليوم. مع ذلك، فإن الجماعة قامت خالل املرحلة املــــاضــــيــــة بـــقـــفـــزة كـــبـــيـــرة فـــــي خــطــابــهــا األيــــديــــولــــوجــــي والــــســــيــــاســــي. وأطـــلـــقـــت الجماعة وثيقتها السياسية قبل أعوام، التي تمثل تحوال مهما في مجال القبول بالديمقراطية والدولة املدنية، والتخلي عـــن الــلــغــة الـــدعـــويـــة الــتــقــلــيــديــة وشــعــار «اإلســالم هو الحل»، وأزالــت من نظامها األساسي اإلشارات إلى عالقتها بجماعة اإلخــــــــــوان فـــــي مــــصــــر، كـــمـــا أنـــــهـــــا قـــامـــت بتعديالت مع الحزب في مجال استدخال املــرأة والشباب إلـى مواقع القيادة، وفي دمقرطة القيادة، والفصل بني انتخابات الحزب والجماعة، وبعديد من اإلجراء ات، التي كانت سابقا تعد من املحرمات التي تدفع بصاحبها إلــى مربعات التخوين والــــشــــك، مــثــل تــبــنــي الــقــضــايــا الـوطـنـيـة والـــســـيـــاســـيـــة واإلصــــالحــــيــــة الـــداخـــلـــيـــة، الــــــذي أصـــبـــح مـــنـــذ أعـــــــوام يـــمـــثـــل ركـــيـــزة رئيسية في خطاب الجماعة. وفي صعيد التصورات االقتصادية، قدمت الجماعة وثـــيـــقـــتـــني مـــتـــتـــالـــيـــتـــني، خــــــالل األعـــــــوام السابقة، تعكسان تحوالت أخرى بنيوية مـــهـــمـــة فــــي خـــطـــاب الـــجـــمـــاعـــة، فـــلـــم تـعـد تتمسك بالخطاب التقليدي، الـــذي كان يكتفي بصفحة واحــدة وبـــ«اإلســالم هو الــحــل»، والــدعــوة إلــى تطبيق الشريعة، إذ قــــدمــــت الـــجـــمـــاعـــة وثـــيـــقـــة مــــن مـجـلـد
ثمة تساؤالت عميقة بشأن تأثير حرب غزة على عالقة الجماعة بالدولة، واعتقال مئاٍت من أفراد الجماعة وُمؤيّديها
كبير تــزدحــم فـيـه األرقــــام واإلحـــصـــاءات فـي تشريح الـواقـع االقـتـصـادي، وتقديم الـــبـــدائـــل املــقــتــرحــة، الــتــي تـخـلـط مـــا بني مفاهيم ليبرالية ويـسـاريـة، تـحـاول من خـاللـهـا الـجـمـاعـة تـقـديـم بــرنــامــج نـقـدي للسياسات الحكومية. بــالــضــرورة، ثـمـة تــســاؤالت عميقة بشأن تــأثــيــر حــــرب غـــــزة عــلــى عـــالقـــة الـجـمـاعـة بالدولة، بخاصة بعد احتكاكات مسجد الكالوتي، واعتقال مئات من أفراد الجماعة ومـؤيـديـهـا (بـصـورة غير مسبوقة) على خلفية االعتصامات واملسيرات املرتبطة بغزة، وبعضهم ال يزال في السجن وقيد املحاكمة، كما نشرت وكالة رويترز تقريرًا غـريـبـا (أثــــار الـعـجـب واالســتــغــراب، حتى بني عدد من املسؤولني في مواقع القرار)، يـــتـــحـــدث عــــن إلــــقــــاء الـــقـــبـــض عـــلـــى خـلـيـة مرتبطة بـ«حماس» وإيران تقوم بتهريب أســــلــــحــــة، وتــــتــــشــــكــــل مـــــن مـــجـــمـــوعـــة مــن اإلخــــوان املسلمني، وهــو األمـــر الـــذي فهم منه تصعيد رسمي في مواجهة الجماعة، ورســالــة لقيادتها، وهــو األمـــر الـــذي، في املـقـابـل، ينفيه مـسـؤولـون آخــــرون، يــرون أن هـنـالـك تضخيما إعــالمــيــا وسياسيا مـــتـــعـــمـــدًا لـــلـــحـــادثـــة مــــن بـــعـــض الــجــهــات السياسية في الداخل وفي الخارج. على أي حال، فإن املفارقة األخـرى تتمثل فـــي إعـــــالن الــجــمــاعــة قــــــراَر املـــشـــاركـــة في االنـتـخـابـات النيابية املقبلة (سبتمبر/ أيـلـول ،)2024 بعد يـــوم واحـــد مـن تمكني الـتـيـار «املـــتـــشـــدد» مــن اإلمـــســـاك بمقاليد القيادة، وكأنه يوجه رسالة باالستعداد لـــــالنـــــفـــــتـــــاح عـــــلـــــى املـــــشـــــهـــــد الــــســــيــــاســــي واالنـــتـــخـــابـــي، وبـــمـــحـــاولـــة ردم الــفــجــوة املتنامية والعميقة مع مؤسسات الدولة، وهــــو أمــــر (أي ردم الـــفـــجـــوة)، مـسـتـبـعـد تماما، فقد جرت مياه كثيرة تحت األقدام (خــــــالل الـــعـــقـــديـــن األخــــيــــريــــن)، لـــكـــن، فـي املــقــابــل، فــــإن مــؤســســات الـــدولـــة ستشعر باالرتياح والرضا ملشاركة الحركة، التي ما زالت تمثل القوة املعارضة الكبرى في الـــبـــالد، بــاإلضــافــة إلـــى أنــهــا األكــثــر قــدرة على تمثيل قاعدة اجتماعية مهمة، وهم األردنـــــيـــــون مــــن أصــــــول فــلــســطــيــنــيــة، فـي النظام السياسي، إذ لم يتمكن أي تيار أو حـزب، حتى اآلن، من كسر قـدرة الجماعة على النفوذ الشعبي في هذه األوساط.