إلىٌ إضافة في إهاب «التنحيف»
نقُل الشعر ما يتعّداه في مجموعة الشاعر السوري «كمن يريد أن يمحو» نحن أمام دعوة إلى النثر، ال بما هو خارج الوزن فقط، بل بما هو نزوٌل إلى األرض ولجم للعاطفة
«كـــمـــن يــريــد أن يــمــحــو» ديـــــوان حسني بـــن حـــمـــزة الـــثـــالـــث (دار رايــــــة، ،)2023 هـــو بــعــد «قـــصـــائـــد دون ســــن الـــرشـــد» عـــودة ثانية للشعر، للشاعر الـسـوري )1963( الذي مضى على صدور ديوانه األول والــوحــيــد «رجــــل نــائــم فـــي ثـيـاب األحــــــد»، الـــصـــادر عـــام ،1997 أكــثــر من عقدين. كانت العودة األولى عام ،2017 والعودتان، إذا صح التعبير، تزامنتا، ال أدري إذا كـــان هـــذا مــن الـــصـــدف، مع انـــتـــقـــال الـــشـــاعـــر مــــن بــــيــــروت، مـوطـنـه الــــثــــانــــي، إلــــــى أملــــانــــيــــا. أمـــــــا مــــا يــــردنــــا إلــــى هــــذه املـــاحـــظـــة، فــهــو أن الــشــاعــر يعلنها في عنوان ديوانه األخير، وفي
ٌّ قصائده. العنوان هو إعان عن طريقة الشاعر في الكتابة، فنه وربما نظريته فــــي الـــشـــعـــر. هـــــذه الـــطـــريـــقـــة صـــــار لـهـا مـن الــرســوخ، مـا يسمح لها بــأن تكون نمطًا خاصًا وقصيدة خاصة. ما أتاح للشاعر أن ينشئ حولها بابًا كاما في ديوانه الجديد. هكذا نقع على قصائد فـــي فــــن الــشــعــر، وفـــنـــه وقــصــيــدتــه هــو. لسنا هـنـا أمـــام دعـــوة عــامــة أو عقيدة فـــي الـــشـــعـــر، نــحــن أمـــــام شــعــر يــطــابــق
ّْ عنوان الـديـوان، ويحتج لهذا العنوان. الشعر هنا مقرون باملحو، إنه الكتابة حتى املــحــو، الكتابة املــضــادة، إذا جاز التعبير. نحن أمــام شعر ال يطمح إلى أن يرتجز، وال أن ينشد، وال أن يطرب. شــعــر يـــصـــارع الـقـصـيـدة، ويـعـمـل على نقدها مـن الــداخــل، وعـلـى تهزيلها إذا جاز التعبير «فقد تابعت تنحيف هذه القصيدة»، بحيث تغدو «ست أو سبع كــلــمــات/ كــتــبــت بـــهـــا/ كــــل قــصــائــدي». إننا أمام نوع من الزهد، من االقتصاد، من الضبط والضغط، وبالطبع الغناء القليل، والـبـاغـة القليلة، وجـريـًا على ذلــــك الــعــاطــفــة املــلــجــومــة «ولـــكـــن الـجـم عــاطــفــتــك/ تــجــنــب تــلــك الــكــلــمــات الـتـي تـخـدع الشعر بـريـش الباغة فيحلق/ وال تثقله بالصور املحاة»، «دع الحب يـمـشـي عــلــى األرض/ ويـــجـــرح قـدمـيـه الرقيقتني/ بأحجار النثر»، لسنا هنا ضــــد الـــبـــاغـــة فــحــســب، بـــل أيـــضـــًا ضــد الغناء، بـل إن الشاعر يـــأذن، ولــو بقدر من التحفظ، بالكتابة عن الحب، إذا كان ال بـد من تناوله، لكن بـدون أن يتحول ذلــك إلــى خـــداع، فالصور املــحــاة وهـذا الـــشـــعـــر الــــــذي يـــبـــنـــى مــنــهــا أو عـلـيـهـا، خــــــداع بـــحـــت. يــمــكــنــنــا أن نـــكـــون هــنــا فــي نـقـد الـشـعـر، بــل نــحــن، مهما كانت لغة الشاعر متواضعة، أمــام مـا يشبه الدعوة إلى قصيدة نثر. النثر، ليس بما هو خارج الوزن فقط، بل بما هو نزول إلى األرض ولجم العاطفة. لعل الافت هنا هو أن بن حمزة ال يتكلم فقط عن فـــنـــه الـــــزهـــــدي، وعــــن شـــعـــره املــقــتــضــب املكتوب بأقل قاموس ممكن، ولكنه، مع ذلك يختار لقصيدته موضوعًا نقديًا، ويعالجه بهذا املزيج من النقد والشعر، أي أنــــه يــتــنــكــب، وهــــو يـــدعـــو لـقـصـيـدة عارية، مغبة فتح الشعر على ما ليس جــــاهــــزًا لـــــه، أي الــتــنــظــيــر والـــنـــقـــد، فـي قصائد ال تخلو مـن الـشـرح والـبـرهـان والـتـحـلـيـل. أي إن الــشــاعــر الــــذي يقول «وقد تركت الشعر»، يقوم بنقل الشعر إلى ما يتعداه، أو يأتيه من خارجه. إن بــنــاء قـصـيـدة فــي نـقـد الـشـعـر، هـــو، من نــاحــيــة مــــا، تــوســيــع لــلــمــدى الــشــعــري، توسيع للفضاء الشعري، وهو من هنا اقـــتـــراح عـلـى الـشـعـر، ولـــو بـــدا، للوهلة األولى، خروجًا عنه، أي الشعر، وإيعازًا بـ«تنحيفه»، أو بكلمة «تقليله». الشعر في الشعر قد يكون إضافة ال تنحيفًا. ال ينشئ بن حمزة في ديوانه فقط بابًا خاصًا للكام عن الشعر، وفي ذلك، بحد ذاتـه، درجـة من املجازفة، أي أنه يحمل الــكــام الـشـعـري، عـلـى تـرتـيـب ونــظــم ال يطيقهما في العادة. لكن هذا الترتيب والــنــظــم يـخـتـرقـان الـــديـــوان كــلــه، الــذي يــكــاد ينبني عـلـى أبــــواب مـتـقـابـلـة. كـل واحـــد منها قــد يـنـصـب عـلـى مـوضـوع واحـــــد. تــحــت عـــنـــوان «مــــا بــعــد الــحــب» نجد الحّب هذه املّرة. هــــنــــا يــــخــــرج الــــشــــاعــــر إلـــــــى مــــوضــــوع شـــعـــري، الــقــصــائــد ال تـــــزال مـقـتـضـبـة، والكام قليل، لكن املوضوع، هذه املرة، شــعــري، بــل ُركـــن فــي الـشـعـر. هـــذه املـــّرة يـقـتـرب الـشـاعـر مــن الـغـنـاء، بــل هــو في طرائفه واعتماده الطرافة الجارية في الــديــوان «تتقدمني فـي الــســن/ باتجاه شبابك» يـــوازي الغناء الــذي نقع عليه جليًا، لدرجة األغنية «أنا زر صغير في أعلى املعطف/ قريبًا من قلبك». هناك أيضًا باب عن الحياة في أملانيا «أملاني يتجول في قصائدي»، حيث نعثر على الــجــار األملــانــي، وعـلـى الـشـاعـر يتسكع فــي أملـانـيـا. فــي مــا نـحـن فــي بـــاب أخير
شعر يصارع القصيدة، ويعمل على نقدها من الداخل «طــائــر بــعــكــازيــن» نـقـع هـــذه املــــرة على شعر، ليس بعد، نقدًا للشعر أو نظرية فيه «سكاكني الوحدة في الداخل تعمل بـا هـــوادة فـي تقطيع الــوقــت»، «ونبدأ بــتــكــســيــر هـــــذه الــــنــــهــــارات الـــقـــاســـيـــة»، و«الـجـمـيـع يـطـيـرون بالسرعة ذاتـهـا»، و«إلــــى أن تــحــول جــنــاحــاي الـكـبـيـران/ إلـــى عـــكـــازيـــن». قــســوة الــعــبــارة هــنــا ال تــنــفــي الـــغـــنـــاء، وال تــنــفــي الـــشـــعـــر، بـل تستحضرهما بقوة.