األردن تحت الهجوم اإللكتروني بداية
من دون سابق إنذار، تحولت النقاشات على مواقع التواصل االجتماعي من إجماع وطني على تأييد الفلسطينيني والتعاطف بشأن املوقف من املـجـازر اإلسرائيلية في غــزة إلى سجاالت داخلية وخارجية، بصورة واضحة للغاية، تدفع نحو تأجيج حالٍة من الفتنة الداخلية في األردن، واستدعاء األردنيني ضد بعضهم. وإذا كان موقع إيكاد كشف شيئا من األجندات الخارجية، بخاصة اإلسرائيلية، التي عملت على إحياء الغرائز ومخاطبتها وتأجيج املخاوف، فإن هنالك بال شك أجندات إقليمية أخرى جعلت من «قصة احتجاجات الكالوتي» (االعتصامات أمام السفارة اإلسرائيلية قرب مسجد الكالوتي) في عّمان فرصة إلظهار األجندة املختبئة منذ 7« أكتوبر» لالنقضاض على حركة حماس وشيطنتها، وفي الوقت نفسه، إضعاف املوقف األردني الذي كان األكثر شراسة ديبلوماسيا ضد العدوان اإلسرائيلي. القناعة التي يحملها سياسيون عديدون في عّمان، وحتى بعض املسؤولني، أن السجال الراهن بشأن هذه االحتجاجات هو صـراع أجندات إقليمية ومحلية؛ وكانت هنالك نقاط تحول بارزة في ذلك، منها إطالق أحد أبرز قادة حزب الله العراقي، أبو علي العسكري، املقرب من طهران، تصريحات غامضة وغريبة (غـداة الهجوم األميركي على القنصلية اإليرانية في دمشق، الذي أدى إلى قتل قيادات كبيرة في الحرس الثوري اإليراني) يتوعد فيها باقتحام الحدود وتسليح 12 ألف مقاتل أردنـي للقتال ضد إسرائيل، وهي ادعاءات هزيلة بالنسبة للمسؤولني األردنيني. على الجهة املقابلة؛ ما حدث من كسر خط أحمر في السجاالت األردنية العلنية، الذي يتمثل في الوحدة الوطنية، جرى تأجيجه في القنوات اإلعالمية والحسابات القادمة من الخارج، التي تصف األردنيني من أصول فلسطينية بأنهم «مجنسون»، وهو مصطلح خطير، ويمثل بحد ذاته خطابا مقلقا، وتتصدر وسومات غير مسبوقة في خطاب الكراهية الداخلي موقع ×، من وسومات خطيرة مستفزة تشيع حالة من التهديد املباشر للسلم األهلي الداخلي! ثـمـة، بـالـضـرورة، انقسام داخـلـي بـني أجـنـدات رسمية وسياسية بشأن املـوقـف فـي غـزة انعكست في الحرب اإلعالمية؛ فهنالك تيار متخوف من الشعارات والهتافات التي تتجاوز الـحـدود املقبولة، فـي رأي أصحابه، وتمجيد شخصيات مـن حركة حماس مثل محمد الضيف والناطق باسم الحركة أبو عبيدة ويحي السنوار، وأن تصبح هذه الشخصيات رمـــوزًا فــي املـسـيـرات وتــرفــع صــورهــا وشــعــارات التأييد لـهـا، ويـتـخـوف هــذا الـتـيـار مما يعتبره «اختطافا للشارع األردنـــي»، وتغليبا لهذه االعتبارات األيديولوجية والسياسية على االعـتـبـارات الوطنية التي حكمت املـوقـف السياسي األردنــــي. وينتقد أصـحـاب هذا الخط السياسي ضمنا وزير الخارجية أيمن الصفدي، ويرون أنه تمادى في تصريحاته ومـواقـفـه، ويـــرون أن املصلحة الوطنية األردنــيــة تقتضي الـعـودة إلــى الـــوراء قليال، وعـدم الدخول املباشر على خط املواجهة الحالية في غزة. فيما يرى تيار سياسي آخر أن املوقف األردنــي والشعبي يجب أن يكون في خندق متقدم في مواجهة العدوان اإلسرائيلي، وال بد من تقوية املوقف األردني وتصليبه أكثر. إذًا، ليست القضية في احتجاجات الكالوتي بحد ذاتها، فاألردن شهد، وال يزال، منذ عقود طويلة، حركات احتجاجية وشعبية واسعة، وتعامل معها املسؤولون السياسيون واألمنيون باحتواء وذكـاء، في أغلب األحيان، لكن حجم املعركة اإلعالمية والصناعة الدعائية واألجندات اإلقليمية واملحلية املتضاربة بشأن هذه االحتجاجات هو الظاهرة الالفتة، فـ«الكالوتي» أصبح مسرحا للمعركة الفلسطينيةالفلسطينية، والعربية- العربية، واألردنـيـة- األردنـيـة، بشأن املواقف واألجـنـدات واملرحلة املقبلة من الحرب على غزة! لعل إحدى القصص املهمة املفترض أن تكون محال الهتمام صانع القرار األردنـي في املرحلة املقبلة أهمية الحبهة الداخلية وعـدم السماح ألي خطاب باملساس بها، ألن من الواضح أن هنالك صراعا دوليا وإقليميا على ترسيم مالمح النظام اإلقليمي الجديد، واألردن ليس في حسبة إيــران وحلفائها، وال إسرائيل واملشروعات اإلبراهيمية التي تسير فـي ركابها. وفــي حــال عــاد تـرامـب إلــى البيت األبـيـض، فستزيد العزلة األردنـيـة بصورة كبيرة، وسـوف يكون األردن، كما حدث في «قضية األمير حمزة»، هدفا مرة أخـرى ملن يريد أن يأخذ البالد إلى جانبه، سـواء كانت إيـران التي تريد نسخة شبيهة بما يحدث في سورية والعراق ولبنان من هيمنة وحكومات عاجزة وحركات موالية لها، أو األجندة املقابلة التي ربما تنظر إلى األردن جزءًا من حل القضية الفلسطينية أو في أحسن األحوال بدور هامشي محدود.