ما بقي من خانيونس
االحتالل يدّمر معالم المدينة ويقتل أهلها
عاد بعض أهالي مدينة خانيونس ليرووا ما شاهدوه من فظائع ارتكبها االحتالل اإلسرائيلي قبل انسحابه منها. هؤالء تحدثوا عن جثامين متحللة ودمار كبير في البيوت والممتلكات والطرقات واألرواح
ال يـــزال سـكـان مدينة خانيونس يبحثون عن ذويهم ومتعلقاتهم ويـــتـــفـــقـــدون مــمــتــلــكــاتــهــم أو مـا بقي منها بعد إعــالن االحـتـالل اإلسرائيلي االنـسـحـاب مـن كامل املـديـنـة، عقب االنتهاء مـــــن الـــعـــمـــلـــيـــات الـــعـــســـكـــريـــة الــــبــــريــــة الـــتـــي تــجــاوزت مـدتـهـا الـثـالثـة أشــهــر، لـيـدمـر أهـم معالم املدينة ومــنــازل ومـــدارس وجامعات املنطقة وحتى األراضي الزراعية فيها، التي كانت تعتبر سلة قطاع غزة الغذائية. وتعد محافظة خانيونس املحافظة الثانية األكـبـر لناحية املساحة فـي قـطـاع غــزة بعد مــحــافــظــة مــديــنــة غـــــزة، لـكـنـهـا كـــانـــت مـلـجـأ ملــئــات اآلالف خــــالل فــتــرة الــــعــــدوان األولــــى، وكانت املحافظة األكثر استقباال للمهجرين مــــن مــخــتــلــف املـــنـــاطـــق عـــلـــى غــــــرار الـــبـــلـــدات الـــشـــرقـــيـــة وحــــتــــى املـــنـــطـــقـــة الـــغـــربـــيـــة الــتــي نـشـأ فيها أول مخيم للمهجرين، بـــدءًا من شـهـر أكــتــوبــر/ تـشـريـن األول وحـتـى مطلع يناير/ كانون الثاني املاضين. وتعرضت خانيونس إلى تدمير كبير وتقييد وصول فرق اإلسعاف وطواقم الدفاع املدني إليها. وكــشــف االنــســحــاب اإلســرائــيــلــي عــن وجــود أعداد كبيرة من جثامن الغزين امللقاة على األرض فـي مختلف املناطق وداخـــل املنازل الـتـي تعرضت للحرق والـتـدمـيـر. وواصـلـت طـــواقـــم الـــدفـــاع املـــدنـــي حــتــى صـــبـــاح الــيــوم الــثــالــث مـــن االنـــســـحـــاب اإلســرائــيــلــي (أمـــس الـــثـــالثـــاء)، انــتــشــال 85 شــهــيــدًا مـــن مـنـاطـق مــخــتــلــفــة فــــي املـــديـــنـــة كـــــان يـــتـــواجـــد فـيـهـا االحتالل ومركباته العسكرية. وكان من بن الجثامن عدد من طواقم اإلسعاف والهالل األحمر الفلسطيني باإلضافة إلـى مدنين، منهم شقيق أحمد عمار، ويدعى محمد 23( عــامــا)، الـــذي كـــان مـفـقـودًا مـنـذ ثــالثــة أشهر وكـــان يـأمـل أهـلـه أن يلتحق بهم فـي مدينة رفح في أية لحظة، لكن أعلن عن استشهاده وانـــتـــشـــال جــثــمــانــه، فـــضـــال عـــن 10 شــهــداء آخرين، بينهم 6 أطفال من العائلة. يــشــيــر عـــمـــار إلـــــى أن املــنــطــقــة كـــانـــت تـنـعـم بـالـهـدوء قـبـل الـسـابـع مــن أكـتـوبـر/ تشرين األول املاضي تاريخ بدء العدوان اإلسرائيلي على قطاع غزة، وكانت مقصدًا للسكن كونها هادئة، لكنها تحولت إلى مدينة أشباح لم تعرف مالمحها أو شوارعها أو أشجارها. تنتشر فيها الروائح الكريهة في وقت باتت ذكـريـات الـنـاس منثورة على األرض. يقول عـمـار لــ «الـعـربـي الـجـديـد»: «اسـتـشـهـد عدد مـن أفـــراد العائلة فـي مدينة خانيونس في وقـت سـابـق. وكــان شقيقي مفقودًا مـن دون أن نـــعـــرف شـيـئـا عـــنـــه، لــكــن أخـــــرج جـثـمـانـه
وجـــثـــامـــن أخـــــرى ألفــــــراد مـــن الـــعـــائـــلـــة، وقــد تــحــلــلــت بـــعـــدمـــا بـــقـــيـــت عـــلـــى األرض أكــثــر مــن شــهــريــن. لــم أتـحـمـل املـشـهـد وعــــدت إلـى والـدتـي فـي خيام املهجرين فـي مدينة رفح التي كانت قد علمت بنبأ استشهاد شقيقي قـبـل وصـــولـــي». يـضـيـف عــمــار: «مـشـيـت في عـدد من مناطق مدينة خانيونس وشعرت بـحـسـرة كــبــيــرة. الـــدمـــار فـــي كـــل مـــكـــان... في املدرسة والكلية التي درست فيها في جامعة األقصى واملحال التجارية والسوق. مسحت كل مالمح املدينة. كانت هناك مزارع صغيرة غـــــرب مــنــطــقــة األبــــــــراج وقـــــد أحـــــرقـــــت. فــعــال أحرقوا األخضر واليابس». يـقـدر املكتب اإلعــالمــي الحكومي أن عملية خانيونس أدت إلى استشهاد أكثر من ألف 300و شهيد، وقال خبيران في رسم الخرائط إن الـــهـــجـــوم اإلســـرائـــيـــلـــي خــلــف أضـــــــرارًا أو دمــارًا، تبدو واضحة، من الفضاء، ألكثر من نصف مباني املدينة. ومن املحتمل أن يكون أكثر مـن 55 فـي املـائـة مـن مباني املدينة قد تـضـرر أو دمـــر، وفـقـا لتحليل بيانات القمر الــصــنــاعــي كــوبــرنــيــكــوس ســنــتــيــنــل-1ـ الـــذي أجراه كوري شير من مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نـيـويـورك وجــامــون فــان دن هوك من جامعة والية أوريغون. وقاال إنهما
أحصيا 45.000 مبنى. مع ذلك، فإن األضرار فـــي خــانــيــونــس وأجـــــــزاء أخـــــرى مـــن جـنـوب القطاع أقـل مما كانت عليه في شمال غزة، حيث يقدر الباحثون أن %70 من املباني قد تكون قد تضررت أو دمرت. كــمــا دمــــر االحـــتـــالل اإلســرائــيــلــي أجــــــزاء من مستشفى الـخـيـر غـــرب مـديـنـة خـانـيـونـس. وتــــعــــود آخـــــر األخــــبــــار الــــــــــواردة عــنــهــا إلـــى فــــبــــرايــــر/شــــبــــاط املـــــاضـــــي حـــــن اقــتــحــمــهــا االحــتــالل، كما استهدف أقساما مـن مجمع نـاصـر الطبي ودمـــر أهــم األســـواق الشعبية فـي املدينة والـتـي كـانـت مصدرعيش ملئات الباعة. ولم يستثن املحال التجارية املعروفة والشهيرة والتي تجاوز عمرها الـ 70 عاما. قــســم االحــــتــــالل هــجــومــه عــلــى املـــنـــاطـــق في مـــديـــنـــة خـــانـــيـــونـــس، وكــــانــــت الــــبــــدايــــة فـي املنطقة الغربية الشمالية التي تضم مدينة حمد بن خليفة وذلك منذ ديسمبر/ كانون األول املـاضـي وحـتـى مـــارس/ آذار املـاضـي، واملنطقة الشرقية التي تضم خمس بلدات وقــــــرى وكــــانــــت تــتــمــيــز بـــثـــروتـــهـــا الـــزراعـــيـــة والــحــيــوانــيــة، ثـــم مـنـطـقـة خــانــيــونــس البلد وسط املدينة. أهم معالم املدينة دمر االحتالل اإلسرائيلي منطقة القلعة التي سميت بذلك نسبة إلى قلعة برقوق، ويعود تاريخها إلى عام 1387 م. وقــــد بــنــاهــا األمـــيـــر يـــونـــس بـــن عــبــد الـلـه النورزي بناء على طلب من السلطان برقوق، أحـــــد ســـالطـــن الـــعـــصـــر الـــعـــربـــي اإلســـالمـــي اململوكي ومؤسس دولــة املماليك البرجية. كما دمر منطقة الخان بالقرب منها، والتي تعود إلى عهد العثمانين الذين اتخذوا من مدينة خانيونس مركزًا تجاريا وسياسيا. عاد رجل اإلصالح في املدينة أحمد األسطل 62( عاما)، والذي ينتمي إلى عائلة معروفة، إلـى خانيونس ليرى املجلس الـذي كـان في منزله حيث يصلح بن العائالت في املدينة،
ويـــقـــيـــم األفــــــــراح ألفـــــــراد الـــعـــائـــلـــة وقـــــد دمـــر بالكامل. لم يجد شيئا من منزله. كانت قد شاهد مقاطع فيديو نشرها االحتالل على تطبيق «تيك تــوك»، والتي تظهر وجودهم فـي إحــدى غـرف بيته، وكـانـت املــرة األخيرة التي يراه فيها قبل تدميره. يعيش األسطل فــــي حـــالـــة صـــدمـــة كـــبـــيـــرة. ويـــشـــيـــر إلـــــى أن االحـــتـــالل ســـرق بــعــض مـتـعـلـقـاتـه الـتـراثـيـة وخصوصا تلك الفلسطينية مثل صبابات القهوة وغيرها من األدوات القديمة والتحف الــتــي يعتز بـهـا وتـعـكـس بعضا مــن تـاريـخ عائلته. يقول األسطل لـ «العربي الجديد»: «جـذور عائلتي تمتد إلــى مـئـات الـسـنـن. منذ ذلك الــوقــت ونـحـن نبني فــي خـانـيـونـس. لدينا أراض مـسـجـلـة مــنــذ الــعــهــد الــعــثــمــانــي في فلسطن وقـد بنينا منازل وزرعنا واختار آخـــرون العمل فـي الصناعة. حتى فـي زمن الــنــكــبــة واحــــتــــالل فــلــســطــن، بــقــيــنــا نــطــور مـديـنـة خـانـيـونـس ونـبـنـي فـيـهـا كــل شــيء. مـا مـن منطقة فـي املدينة إال وسـاهـم أفــراد العائلة فيها بشيء مــا». يضيف: «ضاعت غالبية ممتلكات العائلة ومــا بنيناه منذ مــئــات الـسـنـن بـسـبـب الـحـقـد الـصـهـيـونـي. قـــدمـــت الــعــائــلــة الــكــثــيــر مـــن الـــشـــهـــداء منذ النكبة الفلسطينية وحتى اللحظة، ودمـر في املقابل كل ما بنيناه ألحفادنا بالكامل. أصبحت مدينة خانيونس عبارة عن ركام.
لـم يسلم شـــارع واحـــد منها. دمـــر االحـتـال وهـــــدم كـــل مـــقـــومـــات الـــحـــيـــاة، ولــــم تــبــق إال بعض األرواح فينا. لدينا أمل في أحفادنا بــأن يـأتـوا إلينا بحقنا بعد مماتنا». عثر العشرات من سكان خانيونس على جثامني ذويـــهـــم وقــــد اســتــشــهــدوا عــقــب االنــســحــاب اإلسرائيلي، وكان هؤالء قد اختاروا البقاء لحماية البيوت كجزء من تمسكهم باألرض واملنزل كما يقول محمد أبو سليمان، الذي يشير إلــى أنــه بعد مـــرور أكـثـر مــن عشرين يومًا على فقدان شقيقه مصطفى 30( عامًا)، عثر على جثته في منزلهم الذي يقع بالقرب من مستشفى األمل التابع للهال األحمر. صـــــدم أبـــــو ســـلـــيـــمـــان بـــمـــا رآه. فـــقـــد مـحـلـه الــتــجــاري فـــي مـنـطـقـة الـــســـوق الــتــي دمـرهـا االحـــتـــال، وهـــي قـريـبـة مـــن الـــكـــاراج األقـــدم في املدينة. كما دمـر عــددًا من مصادر رزق عائلته وعائلة والدته املشهورين بالتجارة. وبــعــدمــا كـــانـــت لــــدى عــائــلــتــه أمـــاكـــًا وكـــان وضعها املــادي جيدًا، باتت فقيرة. يضاف إلــى الـدمـار فقدانه شقيقه وعـــددًا مـن أفــراد أسـرتـه مـن أوالده عـمـه. يقول أبـو سليمان لـــ «الــعــربــي الــجــديــد»: «لـــم تـعـد خانيونس تلك املدينة املزدحمة املفعمة بالحياة التي كــانــت تـضـم منطقة الــســوق وأخــــرى مطلة على الـبـحـر، بـاإلضـافـة إلــى منطقة زراعـيـة شـــرقـــًا. أصــبــحــت مـــدمـــرة والــــشــــوارع مليئة بــالــحــفــر. مـــصـــادر رزقـــنـــا ســـويـــت بــــاألرض
وأصبحنا فـقـراء وأســر شـهـداء حالنا حال جميع الغزيني. فربما خسر جميع الغزيني فردًا من أفراد عائاتهم على األقل». يضيف: كـان شقيقي صامدًا في منزلنا، ولـم يرغب في النزوح معنا إذ أراد أن يحافظ على ما نملكه في املنزل. مـات شهيدًا يدافع عن ما نملك وصامدًا في املنزل. مات مغدورًا وقد أعــدمــه االحـــتـــال بـطـلـقـات نــاريــة كــمــان قـال األطـــبـــاء. ال أعــــرف مـصـيـرنـا وقـــد أصبحنا مـــن دون مـــنـــزل. الــكــثــيــر مـــن ســـكـــان مـديـنـة خانيونس ال يعرفون إذا كــان مـن األفضل الـعـودة إلـى العيش وسـط الـدمـار أو البقاء في رفح».
لم تعد خانيونس تلك المدينة المزدحمة المفعمة بالحياة
دمر االحتالل اإلسرائيلي منطقة القلعة التي بنيت عام 1387