الحقيقة «ذكرى» في اعترافات متأخرة
ال تنفصل الحقيقة عن السياسة، وبدونها تـسـتـعـصـي روايـــــة الـــتـــاريـــخ ويستعصي فهمه. وخال العصر الحديث، استطاعت الــدولــة الحديثة، ربـمـا أكـثـر مـن أي عصر ســابــق، إخــفــاء الحقيقة وتـحـريـفـهـا، وقـد ترتب على هذا شيوع ظاهرة إعــادة بناء السرديات التاريخية بناء على ما تكشفه وثــــائــــق كـــانـــت مـــحـــجـــوبـــة، أو اعــــتــــرافــــات مـــتـــاخـــرة. ومـــا يـــحـــدث فـــي الـحـالـتـن عند كــشــف الـحـقـيـقـة يــكــون مـــجـــرد «اســتــعــادة ذكـــــرى»، بـعـد أن يــكــون مــن زور الحقيقة الـــتـــاريـــخـــيـــة أو حــجــبــهــا قــــد حـــقـــق هــدفــًا سياسيًا غير مشروع. ومع تأخر الكشف عن الحقيقة أو اكتشافها أو االعتراف بها يصبح األمـــر مــجــرد اسـتـعـادة «ذكــــرى» بـ «رواية أخرى». أحـــد أهـــم نـــمـــاذج هـــذه الــظــاهــرة مجموعة مــؤرخــن إسرائيلين عــرفــوا بــ «املــؤرخــن الـــــجـــــدد»، والــــوصــــف أطـــلـــقـــه املــــــــؤرخ بــنــي موريس في مقال نشره في .1988 وقد دعا هــــؤالء إلـــى إعــــادة دراســــة تــاريــخ املــشــروع الصهيوني ودولته وفق معايير ومقاييس أكثر حيادًا، ما أسهم في زعزعة مسلمات تـاريـخـيـة اعـتـمـدتـهـا الـــروايـــة الصهيونية واإلســـرائـــيـــلـــيـــة، لــكــن الــكــشــف واالكــتــشــاف واالعـــتـــراف بـقـي أقـــرب إلـــى الــتــرف الفكري الــــذي لـــم يــغــيــر شــيــئــا مـــن حــقــائــق الـــواقـــع، وبـقـيـت األكـــاذيـــب صـاحـبـة الــــدور الرئيس فـي صناعته. وقــد شهدت بـاريـس، أخيرا، واقعتن من هـذا الـنـوع، تنطوي إحداهما عــلــى اعــــتــــراف خــطــيــر، فــفــي بـــيـــان أصــــدره قـصـر اإللــيــزيــه اعــتــرف الـرئـيـس إيمانويل مـــاكـــرون أن فــرنــســا «كــــان بـإمـكـانـهـا وقــف اإلبــادة الجماعية التي وقعت عـام ،»1994 لكنها «لم تكن لديها اإلرادة»، حسبما أفاد قــصــر اإللـــيـــزيـــه، الــخــمــيــس، قـبـيـل الـــذكـــرى الثاثن لبدء املذابح. وذكـر بيان اإلليزيه، أنه «في 27 مايو/ أيار ،2021 اعترف رئيس الجمهورية في كيغالي بمسؤولية فرنسا في اإلبادة الجماعية للتوتسي». وكـــانـــت وســـائـــل إعــــام عـــديـــدة نــشــرت في 4 مــــــارس/ آذار 2024 أن مــنــظــمــات غير حكومية وجمعيات، طالبت بــأن تعترف الـــدولـــة الــفــرنــســيــة بــــ «مــســؤولــيــتــهــا» عن مــمــارســة الــتــعــذيــب خــــال حــــرب الــجــزائــر .)1962-1954( وقـــدمـــت نــحــو 20 منظمة
مــلــفــا إلــــى اإللـــيـــزيـــه جــــاء فــيــه أن «ســلــوك طريق فهم الدوامة القمعية ّالتي أدت إلى ممارسة التعذيب، الـذي شكل االغتصاب أداته األساسية )..( ليس تعبيرا عن الندم، بل هو من عوامل الثقة بقيم األمة». وكان قصر اإلليزيه قال في بيان في 18 أكتوبر/ تشرين األول املاضي إن «أقلية من املقاتلن نشرت الرعب ومارست التعذيب». وبقي االعــــــتــــــراف املــــتــــأخــــر فــــي نـــظـــر حــقــوقــيــن فــرنــســيــن «غـــيـــر مــكــتــمــل، ألنـــــه ال يـــحـــدد سـلـسـلـة مـــن املــســؤولــيــات، خــصــوصــًا في أعلى هرم الدولة». وللمرة األولـى، أصبح هـنـاك حـديـث واضـــح أن التعذيب لـم يكن خطأ أقلية، بـل جـرى التنظير لـه «كنظام حرب وتعليمه وممارسته والتستر عليه وتــــصــــديــــره مــــن الـــحـــكـــومـــات الــفــرنــســيــة، األمر الذي ينطوي على مسؤولية الدولة الكاملة»، والدليل الــذي قدمته املنظمات الـحـقـوقـيـة أن الـتـعـذيـب «درس مـنـذ عـام »1955 في املدارس العسكرية الكبرى مثل: «سان سير». وحــجــم الـتـغـيـيـر الــهــائــل الــــذي طــــرأ على صـورة االتحاد السوفييتي بعد انهياره مطلع تسعينيات القرن املاضي، (بسبب اإلفــراج املتتابع عن وثائقه السرية) كان درســـا مهما مـتـعـدد املـسـتـويـات: معرفيًا وأخـــاقـــيـــًا وســـيـــاســـيـــًا، ولــعــبــة االخــتــبــاء وراء مــفــاهــيــم مــثــل «الـــغـــمـــوض الـــبـــنـــاء» واالمتناع عن التعليق أو حتى التكذيب املتبجح، بــدأت تفقد جــدواهــا، وبخاصة مع تكرار وقائع انهيار السرديات املزورة وظهور شهادات «التوثيق املضاد» التي تناقض «األكذوبة السائدة». واملمتلئون غــــــــرورًا بـــقـــوتـــهـــم أصـــبـــحـــوا أكـــثـــر حــاجــة إلـــى الــتــوقــف عـــن الــتــاعــب بــــ «الـحـقـيـقـة» (حجبًا أو تحريفًا)، وبخاصة أن اقتياد الــتــاريــخ بـــاألكـــاذيـــب وأنـــصـــاف الـحـقـائـق جعل العالم، خال نصف قرن مضى، أمام مواريث ثقيلة من الجرائم التي كان يراد لها أن تبقى مقبورة. ولقد كان الهدف األول دائمًا الحفاظ على مشروعية املكتسبات غير املشروعة التي تــحــقــقــت بـــاســـتـــخـــدامـــهـــا. ولــــجــــوء جــنــوب أفـريـقـيـا إلـــى محكمة الــعــدل الــدولــيــة، ومـا تـــاه مـــن اســتــدعــاء صــفــحــات مـــن الــتــاريــخ ممتلئة بالدم، يعيد االعتبار إلى «الحقيقة التاريخية».