احِم حدودي وتجاوز كل الحدود
يبدو أن الدول األوروبية قد حسمت أمرها فيما يخص مسألة الهجرة إليها، إذ قررت أن تـــواجـــه املـــلـــف بــكــل الـــوســـائـــل الــزجــريــة الــعــســكــريــة والــقــانــونــيــة واملـــالـــيـــة املــتــاحــة، والـــتـــي تــرتــبــط تــحــديــدًا بــحــمــايــة الـــحـــدود مــن وصـــول أهـــل الـجـنـوب والـــشـــرق. الـغـرب عـــمـــومـــًا، وعـــلـــى رأســـــه الــــواليــــات املــتــحــدة، يــحــصــر مـــلـــف الـــهـــجـــرة والــــلــــجــــوء بــكــونــه تـــهـــديـــدًا خـــطـــيـــرًا الســــتــــقــــراره والقـــتـــصـــاده وألمــنــه. وبـالـتـالـي، هــو ال يـأخـذ باالعتبار أي بـــعـــد إنـــســـانـــي أو ســـيـــاســـي أو أمــنــي أو بــيــئــي، هـــو مــــســــؤول جــزئــيــًا فـــيـــه، على مسألة الهجرة. واستنادًا إلـى هـذا املنطق، تـتـهـرب الــــدول الـغـربـيـة أيــضــًا، وبـشـراسـة، مـن دراســـة وتقدير مــدى تأثير مشاركتها التاريخية، واملستمرة أحيانًا، في الوصول بدول الجنوب إلى ما هي عليه من أوضاع مأساوية. هي أوضاع تدفع الجيل الجديد، الذي يشكل غالبية في مجتمعات الجنوب، إلى البحث عن موطئ قدم ولقمة عيش في دول الشمال، فالنزاعات املتأججة والحروب املستمرة والفساد املمنهج وسواد األنظمة الديكتاتورية واألزمات املناخية املتعاظمة، هـي وغيرها عـوامـل أساسية فـي دفــع أهل الجنوب إلــى البحث عـن ملجأ، وبالتالي، للسعي إلى الهجرة بحثا عن الحياة. وبــــعــــيــــدًا عـــــن اإلحــــــالــــــة املـــــــجـــــــردة لـــزمـــن االســــتــــعــــمــــار والـــــتـــــوقـــــف عــــنــــد نـــتـــائـــجـــه الـسـلـبـيـة الــتــي أدت إلــــى نــشــوء كـيـانـات مـــريـــضـــة أو شـــبـــه مــــريــــضــــة، كــــــون هـــذه اإلحالة ستشجع املدافعني عن االستعمار على تشديد انتقاد التحليل، باعتبار أنه يهرب من توجيه اللوم للدولة الوطنية الـــفـــاشـــلـــة، فــســيــاســات الـــشـــمـــال الــحــالــيــة تــعــزز مـن اسـتـدامـة الـحـال وتـشـجـع على تـــطـــويـــره ســلــبــًا مـــن دون أي ســـعـــي إلــى إصـالحـه عند التمكن، أو للمساعدة في إصــالحــه عند اإلمــكــان. ويمكن االعتقاد
أن هذه السياسات تترجم موقفًا بنيويًا اسـتـشـراقـيـًا بـاملـعـنـى الـسـلـبـي للمفهوم، مــن دول الـجـنـوب. وفـــي املـشـهـد الـعـربـي، تـــــــردد الــــغــــرب كـــثـــيـــرًا فــــي اتــــخــــاذ مــوقــف واضــــح مـــن ثـــــورات الــربــيــع الــعــربــي. وإن اعـتـقـد بـعـضـهـم حـيـنـهـا بــأنــه ســاهــم في تأجيجها، كما فــي الـحـالـة الــســوريــة، أو حـسـم بعضها، كـمـا فــي الـحـالـة الليبية، إال أن الـــقـــاســـم املـــشـــتـــرك الـــــذي ســــاد هو اعتبار هذه املنطقة بشعوبها غير مؤهلة للتحول الديمقراطي، وأنها بؤرة تخلف وإرهـــــاب. وبــالــتــالــي، يـتـحـتـم أن تتعاون الدول الغربية مع قادة أشداء يسيطرون على الحجر والبشر، مهما كانت أشكال هذه السيطرة ومهما وسمت باملوبقات. دول الــــجــــنــــوب إذًا هــــي مــــصــــدر لـــلـــمـــواد األولـــــــيـــــــة، وأســـــــــــواق اســــتــــهــــالك واســــعــــة، وأيـــد عاملة رخيصة حيث جـــل حقوقها مستباحة. كما أنها تستخدم كصناديق بـريـد إقليمية ودولــيــة لتسوية النزاعات الـــعـــابـــرة لـــلـــحـــدود، مــــن دون أن يـنـخـرط األصــــحــــاب الــحــقــيــقــيــون لـــهـــذه الـــنـــزاعـــات فيها. وأي تحول ديمقراطي في هذه الدول يمكن أن يـهـدد مصالح «الديمقراطيات» الــــغــــربــــيــــة. وبــــالــــتــــالــــي، مـــــن املــــفــــيــــد دعــــم أنظمة حكم مستبدة قـــادرة على التحكم بشعوبها بحيث تنفذ سياسة ذات أبعاد أربعة لصالح الغرب: األول، أمني مرتبط بمحاربة اإلرهــاب. ويترجم هذا عبر دعم الــــقــــوات األمـــنـــيـــة مــــاديــــًا وتــقــنــيــًا إلحـــكـــام السيطرة على شعوبها. كما يستوجب من الـغـرب غــض النظر عـن االنتهاكات مهما كــانــت، إلـــى درجـــة يمكن أن يـتـم االعـتـمـاد عـلـيـهـا فـــي الــتــعــذيــب بــحــق مـــن ال تسمح القوانني الغربية بتعذيبهم. يتعلق البعد الثاني بملف الهجرة، فعلى دول الجنوب إذًا أن تحمي حدود دول الشمال من تدفق الـالجـئـني مهما كـــان الـثـمـن ومـهـمـا كانت النتيجة، إذ يمكن لها أن تغرق السفن أو تفتتح معسكرات اعـتـقـال. البعد الثالث،
يتحتّم أن تتعاون الدول الغربية مع قادة أشداء يسيطرون على الحجر والبشر
االسـتـقـرار على حـسـاب الـحـريـات، ألن أي توتر مطالبي أو شعبي، يمكن له أن يؤثر سلبًا على تدفق املـواد األولية الضرورية لــــالقــــتــــصــــاديــــات املـــــتـــــطـــــورة، كـــمـــا لـــــه أن يشجع على الهجرة. يرتبط البعد الرابع واألخـــيـــر بــأمــن (وأمـــــــان) دولــــة إســرائــيــل، التي يعتبرها الـغـرب، على الـرغـم مـن كل الحقائق، واحة الديمقراطية الوحيدة في صحراء األنظمة الشمولية. بـــعـــد أن بــــاركــــت أوروبــــــــا االنــــقــــالب الــــذي وقــع فـي تـونـس، مـؤديـة مساعدات مالية كــــبــــرى لـــكـــي تـــقـــبـــض الـــــدولـــــة الــتــونــســيــة بـيـد مـــن حــديــد عـلـى مـلـف الــهــجــرة منها وعــــبــــرهــــا، دفــــــع االتـــــحـــــاد األوروبـــــــــــي مـا يتجاوز الثمانية مليارات يورو للحكومة املــصــريــة. لـــم يــشــتــرط هـــذا الــســخــاء، ولــو شكليًا، أن تخفف السلطات املصرية من قمع معارضيها وكــم أفـواهـهـم. األولـويـة لـــلـــغـــرب هــــي أن يـــكـــون الـــنـــظـــام مــســتــقــرًا لتنفيذ مـهـامـه األربــــع املـنـصـوص عليها أعـــاله. خـصـوصـًا، فيما يتعلق بالتحكم بيد من حديد باملعابر التي تصل بني غزة الشهيدة وسيناء.