Al Araby Al Jadeed

احِم حدودي وتجاوز كل الحدود

- سالم الكواكبي

يبدو أن الدول األوروبية قد حسمت أمرها فيما يخص مسألة الهجرة إليها، إذ قررت أن تـــواجـــ­ه املـــلـــ­ف بــكــل الـــوســـ­ائـــل الــزجــري­ــة الــعــســ­كــريــة والــقــان­ــونــيــة واملـــالـ­ــيـــة املــتــاح­ــة، والـــتـــ­ي تــرتــبــ­ط تــحــديــ­دًا بــحــمــا­يــة الـــحـــد­ود مــن وصـــول أهـــل الـجـنـوب والـــشـــ­رق. الـغـرب عـــمـــوم­ـــًا، وعـــلـــى رأســـــه الــــوالي­ــــات املــتــحـ­ـدة، يــحــصــر مـــلـــف الـــهـــج­ـــرة والــــلــ­ــجــــوء بــكــونــ­ه تـــهـــدي­ـــدًا خـــطـــيـ­ــرًا الســــتــ­ــقــــرار­ه والقـــتــ­ـصـــاده وألمــنــه. وبـالـتـال­ـي، هــو ال يـأخـذ باالعتبار أي بـــعـــد إنـــســـا­نـــي أو ســـيـــاس­ـــي أو أمــنــي أو بــيــئــي، هـــو مــــســــ­ؤول جــزئــيــًا فـــيـــه، على مسألة الهجرة. واستنادًا إلـى هـذا املنطق، تـتـهـرب الــــدول الـغـربـيـ­ة أيــضــًا، وبـشـراسـة، مـن دراســـة وتقدير مــدى تأثير مشاركتها التاريخية، واملستمرة أحيانًا، في الوصول بدول الجنوب إلى ما هي عليه من أوضاع مأساوية. هي أوضاع تدفع الجيل الجديد، الذي يشكل غالبية في مجتمعات الجنوب، إلى البحث عن موطئ قدم ولقمة عيش في دول الشمال، فالنزاعات املتأججة والحروب املستمرة والفساد املمنهج وسواد األنظمة الديكتاتور­ية واألزمات املناخية املتعاظمة، هـي وغيرها عـوامـل أساسية فـي دفــع أهل الجنوب إلــى البحث عـن ملجأ، وبالتالي، للسعي إلى الهجرة بحثا عن الحياة. وبــــعـــ­ـيــــدًا عـــــن اإلحــــــ­الــــــة املـــــــ­جـــــــرد­ة لـــزمـــن االســــتـ­ـــعــــمـ­ـــار والـــــتـ­ــــوقــــ­ـف عــــنــــ­د نـــتـــائ­ـــجـــه الـسـلـبـي­ـة الــتــي أدت إلــــى نــشــوء كـيـانـات مـــريـــض­ـــة أو شـــبـــه مــــريـــ­ـضــــة، كــــــون هـــذه اإلحالة ستشجع املدافعني عن االستعمار على تشديد انتقاد التحليل، باعتبار أنه يهرب من توجيه اللوم للدولة الوطنية الـــفـــا­شـــلـــة، فــســيــا­ســات الـــشـــم­ـــال الــحــالـ­ـيــة تــعــزز مـن اسـتـدامـة الـحـال وتـشـجـع على تـــطـــوي­ـــره ســلــبــًا مـــن دون أي ســـعـــي إلــى إصـالحـه عند التمكن، أو للمساعدة في إصــالحــه عند اإلمــكــا­ن. ويمكن االعتقاد

أن هذه السياسات تترجم موقفًا بنيويًا اسـتـشـراق­ـيـًا بـاملـعـنـ­ى الـسـلـبـي للمفهوم، مــن دول الـجـنـوب. وفـــي املـشـهـد الـعـربـي، تـــــــرد­د الــــغـــ­ـرب كـــثـــيـ­ــرًا فــــي اتــــخـــ­ـاذ مــوقــف واضــــح مـــن ثـــــورات الــربــيـ­ـع الــعــربـ­ـي. وإن اعـتـقـد بـعـضـهـم حـيـنـهـا بــأنــه ســاهــم في تأجيجها، كما فــي الـحـالـة الــســوري­ــة، أو حـسـم بعضها، كـمـا فــي الـحـالـة الليبية، إال أن الـــقـــا­ســـم املـــشـــ­تـــرك الـــــذي ســــاد هو اعتبار هذه املنطقة بشعوبها غير مؤهلة للتحول الديمقراطي، وأنها بؤرة تخلف وإرهـــــا­ب. وبــالــتـ­ـالــي، يـتـحـتـم أن تتعاون الدول الغربية مع قادة أشداء يسيطرون على الحجر والبشر، مهما كانت أشكال هذه السيطرة ومهما وسمت باملوبقات. دول الــــجـــ­ـنــــوب إذًا هــــي مــــصــــ­در لـــلـــمـ­ــواد األولـــــ­ــيـــــــ­ة، وأســـــــ­ــــواق اســــتـــ­ـهــــالك واســــعــ­ــة، وأيـــد عاملة رخيصة حيث جـــل حقوقها مستباحة. كما أنها تستخدم كصناديق بـريـد إقليمية ودولــيــة لتسوية النزاعات الـــعـــا­بـــرة لـــلـــحـ­ــدود، مــــن دون أن يـنـخـرط األصــــحـ­ـــاب الــحــقــ­يــقــيــو­ن لـــهـــذه الـــنـــز­اعـــات فيها. وأي تحول ديمقراطي في هذه الدول يمكن أن يـهـدد مصالح «الديمقراطي­ات» الــــغـــ­ـربــــيــ­ــة. وبــــالــ­ــتــــالـ­ـــي، مـــــن املــــفــ­ــيــــد دعــــم أنظمة حكم مستبدة قـــادرة على التحكم بشعوبها بحيث تنفذ سياسة ذات أبعاد أربعة لصالح الغرب: األول، أمني مرتبط بمحاربة اإلرهــاب. ويترجم هذا عبر دعم الــــقـــ­ـوات األمـــنــ­ـيـــة مــــاديــ­ــًا وتــقــنــ­يــًا إلحـــكـــ­ام السيطرة على شعوبها. كما يستوجب من الـغـرب غــض النظر عـن االنتهاكات مهما كــانــت، إلـــى درجـــة يمكن أن يـتـم االعـتـمـا­د عـلـيـهـا فـــي الــتــعــ­ذيــب بــحــق مـــن ال تسمح القوانني الغربية بتعذيبهم. يتعلق البعد الثاني بملف الهجرة، فعلى دول الجنوب إذًا أن تحمي حدود دول الشمال من تدفق الـالجـئـن­ي مهما كـــان الـثـمـن ومـهـمـا كانت النتيجة، إذ يمكن لها أن تغرق السفن أو تفتتح معسكرات اعـتـقـال. البعد الثالث،

يتحتّم أن تتعاون الدول الغربية مع قادة أشداء يسيطرون على الحجر والبشر

االسـتـقـر­ار على حـسـاب الـحـريـات، ألن أي توتر مطالبي أو شعبي، يمكن له أن يؤثر سلبًا على تدفق املـواد األولية الضرورية لــــالقــ­ــتــــصــ­ــاديــــا­ت املـــــتـ­ــــطـــــ­ورة، كـــمـــا لـــــه أن يشجع على الهجرة. يرتبط البعد الرابع واألخـــيـ­ــر بــأمــن (وأمـــــــ­ان) دولــــة إســرائــي­ــل، التي يعتبرها الـغـرب، على الـرغـم مـن كل الحقائق، واحة الديمقراطي­ة الوحيدة في صحراء األنظمة الشمولية. بـــعـــد أن بــــاركــ­ــت أوروبـــــ­ـــا االنــــقـ­ـــالب الــــذي وقــع فـي تـونـس، مـؤديـة مساعدات مالية كــــبــــ­رى لـــكـــي تـــقـــبـ­ــض الـــــدول­ـــــة الــتــونـ­ـســيــة بـيـد مـــن حــديــد عـلـى مـلـف الــهــجــ­رة منها وعــــبـــ­ـرهــــا، دفــــــع االتـــــح­ـــــاد األوروبـــ­ــــــــي مـا يتجاوز الثمانية مليارات يورو للحكومة املــصــري­ــة. لـــم يــشــتــر­ط هـــذا الــســخــ­اء، ولــو شكليًا، أن تخفف السلطات املصرية من قمع معارضيها وكــم أفـواهـهـم. األولـويـة لـــلـــغـ­ــرب هــــي أن يـــكـــون الـــنـــظ­ـــام مــســتــق­ــرًا لتنفيذ مـهـامـه األربــــع املـنـصـوص عليها أعـــاله. خـصـوصـًا، فيما يتعلق بالتحكم بيد من حديد باملعابر التي تصل بني غزة الشهيدة وسيناء.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar