خمس وردات من الدم
جسُدِك بلدي الذي يحترق
ضوء مشترك
انتظرنا، فلم يأتوا. فتحنا النوافذ، وأصغينا لألصوات ليال ونهارًا، ومشطنا الوجوه املتعبة النازلة إلى املحطة وجهًا وجهًا، وضبطنا منظارنا على البقع التي في األفق: انتظرنا، منكسرين، حتى بعد معرفتنا أنهم لن يأتوا.
لم تمر األيام عظيمة هنا: اللحظات العادية والبسيطة والهادئة طاردت لحظات عادية وبسيطة ومرة: لم يكن ثمة عواصف كبرى، ولم تحل أســـحـــار كـــبـــرى هــــذا الـــصـــيـــف: األحـــــزان الدائمة من غير سبب، وفأل األطفال التائه، وقـــلـــيـــل مــــن عـــلـــم اجــــتــــمــــاع الــــبــــلــــدة فـي العطلة، وعادت التقويمات بالكالم الفارغ: كانت عيننا على الطريق، ولم يأتوا.
انزوينا في الغرف، وقرأنا قراء ة صامتة قصائد سيفريس ومونتال، وأبياتًا مليئة بالبحر املتوسط، كلها من أنوفنا. فجأة انطلقنا في مسير مساء وصمتنا فجأة. كأننا قبضنا على معنى نادر، صعدنا إلى قرى الجبال يومًا، واستمعنا لقصة أوالد بائع اإلسفنج، وتحدثنا مع امرأة منسية في يوم آخر، ثم تتابعت املعجزات: نظرنا إلى حدأة بعني الصيد طويال، أنزلنا مطرًا غزيرًا وسط الفصل الشاحب بينما نطفئ حريقًا، أشعلنا حريقًا آخر: كان يمكنكم أن تأتوا فجأة، انتظرنا.
كـــانـــت املـــــائـــــدة جـــــاهـــــزة: عــشــبــة الــرجــلــة والثوم، والزعتر الذي جمعناه بأيدينا، والتني،
والــــنــــعــــنــــاع: كــــنــــا جـــاهـــزيـــن لـــالســـتـــمـــرار باالرتباك واالنفعال من حيث توقفنا. كنا سنسأل كيف مر املاضي، وكيف سيأتي املستقبل. إذا لم نتابع األلم فلن يهدأ، ولن يفتح هذا الضباب الكثيف إذا لم يمسك ضوء مشترك من جذوره، سنكون وسط الخوف الذي بداخلنا: انتظرنا، فلم تأتوا.
ثمة نقص هام عندما بدأت العودة، لم نستطع أن نغلق الحقيبة. عدنا، وأعدنا النظر إلى الغرف، وبحثنا فـــي املــحــاجــر وفــــي الـــحـــيـــاة: لـــم نـفـهـم ما أضعناه. لعلنا كنا بصدد نصف إحساس، ولعله حلم يقظة، تغذى في أنفسنا، ولعله لهب انطفأ في اآلخر، وصلنا إلى عتبته، لكننا لم نره: انتظرنا، لو أنكم أتيتم. ■■■
أحمر
البلد يحترق قضيت حياتي بـني تلك الـنـيـران التي ال تنطفئ. روحي يابسة، وعقلي يدخن دون انقطاع. حاولت إدارة ظهري دون جدوى: أينما أذهب ال أستطيع الهروب من رائحة السخام التي تمأل أنفي. وددت لو أعرف السبب، حاولت بال فائدة. كبرت األشجار التي غرستها، والدخان
يتصاعد وتبخرت مياه املطر التي جمعتها... الـــتـــربـــة الـــتـــي حــرثــتــهــا أصــبــحــت جــــرداء أكثر، عامًا بعد عام، أجل، أنا رجل ولد طفال: إيكاروس، لكنني نادم على ذلك من زمان. كنت شابًا، أقنعت نفسي بأزمنة أفضل وتوقعت أن يكون الصواب مواتيًا، لكن الخطأ أصبح جمرة بدال منه. توقعت أن تتحطم األسـبـاب واحـــدة تلو األخرى، لكن النتائج سادت. في البداية شققت طريقًا في الفراغ الذي أمامي، تقدمت بصبر وعناد، عامًا بعد عام، عبر النيران واآلن أنا منهك، ومذعور أكثر من أي وقت مضى، أغرق ببطء في قاع نفسي.
هل سينطفئ هذا اللهب الكبير يومًا ما؟ لست أدري. لكنني أعلم أنني لن أرى انطفاء ه. من نافذة غرفة طابق السقيفة، أطـــــل عــلــى مـــا أراه كـــطـــائـــر بــــــري بــنــظــرة ثاقبٍة: ال أرى سوى الرعب كـمـا فــي لـوحـة تـــرش علينا األلــــم الـقـاتـل الذي نمر به عبر أحد جدران «برادو»، أميز مالمح وجهي البائس في إحدى الصور الحائرة. ترى، ملاذا استحققنا هذه الجحيم؟ أي كبائر وأي جرائم غير قابلة للعقوبة جمعتنا كي تكيلنا في أحد كفي امليزان الظالم؟ لو كـان كابوسًا لصحوت ألجـفـف عرقي املتصبب. لـــو كــــان نـــوعـــًا مـــن الــهــلــوســة - الــهــذيــان االرتعاشي - الحتملت العطش. ال هذا وال ذاك، فاملرآة املسطحة الغليظة تتقيأ الحقائق أمامي: نـــغـــرق نــحــو قــــاع بــحــيــرة بـــنـــيـــة قــرمــزيــة تزداد اتساعًا. ■■■
خمس وردات
أحضرت لك خمس وردات يا حبيبتي أحــــضــــرت، دون ســـبـــب، خـــمـــس وردات حمراء: من الدم. خـــمـــس وردات بـــيـــضـــاء مــــن الــحــلــيــب، خمس وردات صفراء ذهبية األوراق أحضرت لـك يا حبيبتي خمس وردات وردية من الفجر.
اقتطفتها يد غير يدي، فيدي في غاية الجنب: ال أعرف إال الغرس واللمس: جسدك بـــلـــدي الــــــذي يـــحـــتـــرق مــــن الــــــــرأس إلـــى أخمص القدمني وأصـــابـــعـــي مــــن أجــــلــــك خـــمـــس وردات سوداء مـــن الــفــحــم. الــــتــــراب، الـــلـــمـــس، والـــورقـــة الفارغة: فخورة من بني كلماتي بال سبب. أتقدم وكل رسم تتركه قدمي على الثلج رثاء
نزعت األشــواك: خمس وردات نقية من أجلك.