صوت مغربي: تعاون لحداثة أخالقية على قاعدة تجديد الدين؟
مــرة أخـــرى، يتقدم وزيــر األوقـــاف والـشـؤون اإلسالمية، الكاتب والروائي واملـؤرخ، أحمد التوفيق، خطوة جريئة في خريطة تحديد األفــــق الـــحـــداثـــي لـــرهـــان املـــمـــارســـة الـديـنـيـة. وهـــو بـرنـامـج غـيـر يـسـيـر لــدولــة فــي العالم اإلسالمي في الوقت الراهن. ويبدو الرهان، مــن خــاللــه، حـضـاريـا أكــبــر مـمـا هــو نـقـاش أكاديمي أو مناسباتي تقتضيه مواضعات درس رمضاني دأبت امللكية في املغرب على ترسيخه والعناية به، وتحلق حوله كثيرون مــن صــنــاع الــــرأي الــعــام الـديـنـي فــي الــدائــرة العربية اإلسالمية... ولعلها املرة الثالثة التي يلجأ فيها الوزير املغربي إلى استنبات النقاش العاملي بشأن مركزية األخالق في بناء الحداثة اإلسالمية املعاصرة، من باب التجربة املغربية. ســـبـــق لــــه أن ركـــــــز، فــــي درس ســــابــــق، عـلـى أطــروحــة عـالـم االجـتـمـاع األمــيــركــي، ماكس فــيــبــر، فـــي بــنــاء قـــوة األخــــــالق، وأيـــضـــا دور املـــعـــتـــقـــدات الــديــنــيــة فـــي الـــرفـــع مـــن الـــقـــدرة االقــتــصــاديــة لــلــدولــة اإلســـالمـــيـــة الـحـديـثـة، وتـــســـريـــع االســـــتـــــدراك الـــتـــاريـــخـــي لــلــتــأخــر املسجل فـي مـجـاالت التنمية بكل فروعها، مــــــع اســــتــــحــــضــــار دور الـــبـــروتـــســـتـــانـــتـــيـــة املــســيــحــيــة وأخـــالقـــهـــا فـــي صــنــاعــة الـــوفـــرة الرأسمالية الحديثة فـي الـواليـات املتحدة، (انظر مقال الكاتب «ماكس فيبر يدعو إلى املـــعـــروف ويــنــهــى عـــن املــنــكــر» فـــي «الــعــربــي الــجــديــد»). وهـــو يــعــود مـــجـــددا إلـــى تطعيم أطــروحــة جـريـئـة انـتـقـد خـاللـهـا كــل تـجـارب التفكير في تجديد الـديـن، من خـالل العجز عـن فهم اآلخـــر، وهـــذه، بـحـد ذاتــهــا، مغامرة فكرية محفوفة بالدهشة، من مؤسسة دينية تعمل تحت مظلة إمارة املؤمنني. ومن القوة بمكان أن يقدم وزيـر دولـة إمارة املؤمنني على اإلحالة على كاتبني، هما من صميم العقل الغربي األخالقي بناء على ما سميناها الـحـداثـة األخـالقـيـة، تشبعا بها، ثم عبرا عنها، وكالهما من خارج مصفوفة التفكير الديني الرسمي أو التاريخي، فقد خـــتـــم أحـــمـــد الـــتـــوفـــيـــق الـــــــدرس الــرمــضــانــي «تــجــديــد الـــديـــن فـــي نــظــام إمـــــارة املــؤمــنــني” بــالــدعــوة إلـــى ضــــرورة تــعــاون عـلـمـاء الـديـن والنخبة الحارسة للنظام العقدي وأخالقه مـــع ســــادة املــنــجــز الــفــكــري الــغــربــي فـــي هــذا الباب. وهكذا عاد إلى استبطان قيم الفلسفة األخالقية الغربية، في بناء طريق الخروج مــن انــفــصــام حــضــاري وعـــقـــدي، بــني «كـمـال الــديــن ونـقـص الــتــديــن»، بما يعني ذلــك من وجـــود هـــوة سحيقة بـني إيـمـان األمـــة بدين كامل وسلوكات املسلمني التي تخذل جذعه األخـــــالقـــــي، حـــتـــى بـــاملـــعـــيـــار الــــــذي وضــعــتــه الحضارات األخرى، التي ال تقدس نفسها! أول مـــن ســــار إلـــيـــه املـــحـــاضـــر أمـــــام الــعــاهــل املـغـربـي، محمد الــســادس، كــان وائـــل حـالق، الـــــبـــــاحـــــث واملـــــفـــــكـــــر الـــفـــلـــســـطـــيـــنـــي، كـــنـــدي الـجـنـسـيـة، املــتــخــصــص بــالــقــانــون وتــاريــخ الــفــكــر اإلســــالمــــي، صـــاحـــب كـــتـــاب «الـــدولـــة املــســتــحــيــلــة: اإلســــــــالم والـــســـيـــاســـة ومـــــأزق الحداثة األخالقي»، وحسب ملخص الكتاب فـــإن «مــفــهــوم الـــدولـــة اإلســالمــيــة مستحيل الــتــحــقــق ويـــنـــطـــوي عــلــى تــنــاقــض داخـــلـــي؛ وذلــــك بـحـسـب أي تـعـريـف ســائــد ملـــا تمثله الـــــدولـــــة الــــحــــديــــثــــة». وقــــــد اســـتـــخـــلـــص مـنـه املحاضر الرسمي أمام امللك ضرورة اعتماد تـفـكـيـر عـمـلـي لـــأخـــالق فـــي ردم الـــهـــوة بني العصر واالنتماء إلى دين اإلسالم، بناء على مــقــدمــات ســيــرد تــركــهــا، بـاقـتـضـاب، الحـقـا. أمـا االسـم الثاني فهو الفيلسوف األميركي تـــشـــارلـــز الرمـــــــور، والــــــذي يــمــحــص الــعــالقــة بـني األخـــالق ومــا كلفته لـأخـالق مـن غربة. واألطــــروحــــة املــركــزيــة لـلـبـاحـث أن األخـــالق حـقـل «ذو قيمة غـيـر قـابـلـة لــالخــتــزال، إذ ال تـوجـد وجـهـة نظر خـــارج األخـــالق يمكن أن يقودنا العقل مـن خاللها إلـى فهم صحيح لــطــبــيــعــة الـــحـــيـــاة األخــــالقــــيــــة». ولــــعــــل هـــذا الفيلسوف قــد أسـعـف املـحـاضـر فــي تفكير العالقة املعقدة واالستقصائية بني استقالل األخــــــــــالق وعــــالقــــتــــهــــا، مـــــع جــــوهــــر الــــديــــن، والتنظير لها بوصفها تعبيرًا عن التجسد الــتــاريــخــي لــلــديــن. وبــلــغــة نــثــريــة مــبــاشــرة، كيف للمسلم اليوم أن يكون كيانًا من صميم الـتـطـور الــبــشــري، مــع االحــتــفــاظ بكينونته األخــالقــيــة وعــــدم التقليل مـنـهـا فــي تثبيت هويته وتحقيق ازدهاره؟ ولعل املقصود به في سياق الدعوة التي تبناها التوفيق، من خالل اإلشادة بكتابات الفيلسوف األميركي، هــو كـيـفـيـة مـصـالـحـة الــحــداثــة مــع الـتـديـن، بعد استرجاع األخالق ملصادرها التقليدية أو تحيينها بعد أن حرمتها منها الحداثة. ولعل نقط التقاطع بني األطروحتني اللتني تـــمـــت اإلحــــالــــة إلــيــهــمــا واألجـــــنـــــدة الــديــنــيــة الجديدة التي يجب أن يعمل عليها العالم اإلســالمــي تتمثل فـي حـداثـة الــدولــة والـفـرد بــنــاء عــلــى مــعــيــار أخـــالقـــي مـــتـــجـــدد.. ولـعـل املــــقــــصــــود أيــــضــــا إنـــــضـــــاج شــــــــروط نـــجـــاح التجربة املغربية، من خالل خطة وضعتها آلــيــات إمــــارة املــؤمــنــني لـــ«تــســديــد التبليغ» (الـدقـة فـي تحديد أهـــداف التبليغ الديني)، من خالل نزول العلماء إلى الحياة الحديثة املضطربة والصاخبة بحداثتها، وسيكون، عـــلـــى املــــديــــني، الــبــعــيــد واملــــتــــوســــط، عـــرض أجـــوبـــة الــنــجــاح املــحــلــي وتـعـمـيـمـهـا جـوابـًا إسالميًا عامًا. الـدعـوة إلـى التعاون األخـالقـي بني املسلمني وعلمائهم مع عقوله في الغرب تركيب نظري وعــمــلــي بـــني ضــــــرورة تـــجـــاوز االعـــتـــقـــاد في «اكـتـفـاء ذاتـــي» أخـالقـي إسـالمـي، غير مثبت وغير منتج، والحاجة العملية إلـى االنتماء املـــســـتـــتـــر... إلـــــى الــــديــــن. وهــــكــــذا تـــأتـــي فــكــرة التعاون مع دعاة املثالية األخالقية في الغرب لــتــجــاوز الــعــطــب فـــي فــهــم الـــغـــرب، وفـــي عــدم القدرة على تحقيق ما أنجز هو لنفسه، وال شك أن في األمر أيضا استدراكًا لكل األعطاب التي أصـابـت دعـــوات التجديد الديني. وفي هذا الباب، كان أحمد التوفيق نقديا للغاية بـــخـــصـــوص تــــجــــارب الـــتـــجـــديـــد الـــديـــنـــي فـي العالم اإلســالمــي منذ الـقـرن الخامس عشر، مـــــرورًا بــالــوجــوه الـــبـــارزة فـــي املـــجـــال، أمـثـال أحمد خان الذي يعد من أبرز رجال اإلصالح اإلســـالمـــي فــي الــقــرن الـتـاسـع عـشـر املــيــالدي فــي الـهـنـد، مــــرورا بــالــدعــاة املصلحني الـذيـن جــــاءوا بــعــده. وكــــان تـشـريـحـيـا فــي تغاضي املـسـلـمـني عـــن مــآســي عـــديـــدة اقــتــرفــت بـاسـم عــقــيــدتــهــم وعـــجـــزهـــم عــــن تــــأمــــل الــلــيــبــرالــيــة ومـــا جـــاءت بــه مــن مكتسبات، وعـــدم الـقـدرة على تحديد حــدود التماهي مـع اآلخـــر، وما إذا كــــان مـــحـــمـــودًا أن يـقـتـصـر تــقــلــيــده على الجانب املـــادي فقط أم يـتـجـاوزه إلــى مـا هو أخالقي. ويبدو أنه حسم الجواب بالقول إن من ضـرورات إحـداث نقلة نوعية في تقريب الدين من التدين، وتسديد التدين عير الرقي بــالــتــأطــيــر الـــديـــنـــي، االنـــفـــتـــاح عـــلـــى الـــتـــراث األخــالقــي اإلســالمــي مــن جـهـة والــتــعــاون مع منجزات الجهد األخـالقـي البشري مـن جهة ثانية. وفي ذلك، يبدو من الضروري إصالح املصطلح أو استبداله للحسم مع نقاط عديدة تكشف هـــاويـــات كـثـيـرة فــي الـهـويـة الدينية للمسلمني. ومن التحوالت التي تدعو إليها املـقـاربـة الـجـديـدة، فـي هــذا الـسـيـاق، أال تظل مفاهيم التأطير اإلصــالحــي الدينية بعيدة عـن املرجعيات الوضعية. ولـعـل تلخيصها جاء في التركيبة البالغية التي تجعل «العمل بالقانون من املعروف واإلخالل به من املنكر». لقد انطلقت أطــروحــة املـؤسـسـة الدينية من «وجـود تفاوت بني كمال الدين والنقص في جـودة التدين»، ومن ضـرورة خـروج العلماء إلــى الـشـارع ومقارعة الحياة فـي انزالقاتها األخـالقـيـة، ملـا قـد يكون لذلك مـن انعكاسات ســلــبــيــة، ومــنــهــا تـعـطـيـل لـلـمـجـتـمـع بــرمــتــه. ومـــــن مــضــمــر مــــا يـــقـــولـــه الـــســـيـــاق أكـــثـــر مـمـا يقوله الكالم، هو تكريس دور الدولة، كفاعل أخـــالقـــي مـــن خــــالل «تــأصــيــل صــفــة رئيسها أمـيـرا للمؤمنني..». وهنا يمكن أن نتساءل، مع الباحثني في السياسة والـتـاريـخ، ما إذا كانت إرادة التفكير، من خالل أواليات حداثية من تحت مظلة إمارة املؤمنني، هي بحد ذاتها إرادة فــي تطعيم الـفـكـر والـثـقـافـة الحديثني بـــنـــوع مــــن «الــــقــــداســــة» ( تـــأمـــني الـــحـــداثـــة بـتـحـيـني الـــقـــداســـة؟). وربـــمـــا يـحـسـن بــنــا أن نتساءل كذلك ما إذا كانت حركية ضرورية لـتـوسـيـع مــفــهــوم ووظــيــفــة ومـــجـــال اشـتـغـال إمـــــارة املـــؤمـــنـــني، الــتــي تــحــولــت فـــي لـحـظـات مـــن الـــنـــقـــاش املـجـتـمـعـي الـــعـــاصـــف، كــمــا في قضية املرأة، إلى سند في «الهوت تحريري» مـغـربـي، واسـتـظـل بـهـا الـيـسـار والـحـداثـيـون (نــمــوذج الــراحــل ابــراهــام السرفاتي املغربي اليهودي واألب الـروحـي لليسار الراديكالي وعبد العالي بنعمور أحد الوجوه املعروفة فـي أوســـاط االشتراكيني الديمقراطيني) في الـــدفـــاع عـــن الـقـيـم الــكــونــيــة، وســــدا فــي وجـه التيار الديني الداعي الـى املحافظة، وحكما مـــطـــلـــوبـــا رأيـــــــه لـــتـــحـــديـــد وجــــهــــة اإلصـــــــالح، والـــتـــاريـــخ مــعــه، وضــمــانــة الســتــنــبــات القيم اإلنـسـانـيـة الـعـصـريـة فــي املـجـتـمـع. ال سيما وأن تأصيل إمــارة املؤمنني اعتبرته كتابات أنثروبولوجية وسياسية كثيرة فـي العهد الـــســـابـــق، مـــن األجـــانـــب خــصــوصــًا، مـحـاولـة إلعـــــادة إحـــيـــاء تـقـلـيـدانـيـة الـــدولـــة ومــحــاولــة تأصيلها حتى ... وكان الفتا أن الوزير ألح، في مرافعته التي سيكون لها ما بعدها وال شك على ضرورة «التخفيف مـن نفقات التدبير السياسي»، و«اكتساب املناعة الجماعية ضد التشويش الـــداخـــلـــي والـــخـــارجـــي بـــاســـم الــــديــــن، وضــد أنــــواع الـفـتـنـة»، وهـــو مــا قــد يفهم مـنـه، نقد ضمني للنخبة، الدينية منها والسياسية، بخصوص مدى استحضار البند األخالقي مــــن عــــدمــــه، فــــي عــمــلــهــا، وكــــذلــــك ملـــحـــاوالت استعمال الدين في املعادالت الداخلية... في لحظة جامحة من تاريخ املغرب!
انطلقت أطروحة المؤسسة الدينية في المغرب من «وجود تفاوت بين كمال الدين والنقص في جودة التدين»، ومن ضرورة خروج العلماء إلى الشارع ومقارعة الحياة في انزالقاتها األخالقية
لعلها المرة الثالثة التي يلجأ فيها الوزير المغربي أحمد التوفيق إلى استنبات النقاش العالمي بشأن مركزية األخالق في بناء الحداثة اإلسالمية المعاصرة، من باب التجربة المغربية