Al Qabas

تمثال المثقف المزيف

- د. أنوار السعد

يكثر تداول مسمى »مثقف« في الفترة الأخيرة، وكأنه قد أصبح وسام شرف أو لقباً اجتماعياً رفيع المستوى يمنح لكل من قرأ كتابين أو ثلاثة، وحفظ بعض المقولات الشهيرة في مجاله أو بشكل عام، وارتدى قبعة كلاسيكية. وليس البشر فقط، فحتى الأماكن لم تنج من هذا التعميم، فنجد مسمى »المنتدى الثقافي« المعين، وحين تنظر إلى جدول أعماله، فلا تجد فيه شيئاً سوى قراءة بعض الكتب، واستضافة بعض »المثقفين«، من دون وجود هذا الحوار العقلي والفكري الفعلي والقائم على طرح الأسئلة، والشك قبل اليقين، والتحاور والمجادلة أكثر من مجرد تسليم بكل ما يطرح ويقال، وكأنهم بذلك يصنعون تماثيل عاجية لمثقفين يديرون أماكن ثقافية لينجبوا جيلاً من المثقفين، يوزعون عليهم صكوك الثقافة لتنتشر عدوى »المثقف المزيف« وتمثاله المكرر على هيئة تماثيل مساوية له في السطحية وتعليب العلم والمعرفة كما كثير من الأشياء والمسميات في مجتمعاتنا.

المعركة الحقيقية

والحقيقة أنه مع أول خطوة يخطوها الإنسان إلى داخل غابة العلم والمعرفة، بدءاً بمراحلها الأولى مع المدارس والتعليم، إلى لحظة الولوج من بوابتها المهيبة بكل ما تحمله من كنوز على أرففها وأقصد المكتبة، ومن ثم السير في دروب العلم، سواء التقليدية أو التعليم الذاتي، بالاطلاع الواسع والقراءة اليومية، مروراً برحلة الشك والأسئلة التي تؤرقك بحثاً حتى تجد إجابة أو قناعة تعود لدحضها في اليوم الآخر مع كل حقيقة جديدة وتطور فكري واجتماعي تمر به، دخولاً إلى معبر القلق المظلم والشائك، والنظر إلى العالم بعين الريبة والترقب، إلى الرغبة في التنوير والتغيير، وصولاً إلى الثقة والجسارة والشجاعة في أن تقول وتكتب قناعاتك وتنشرها، في الوقت ذاته الذي تواجه المجتمع والعالم أجمع بهذه الأفكار، حتى وإن حاربك العالم كله، فتظل ممسكاً بسلاح علمك ومعرفتك، محاولاً أن تريهم ولو بريقاً خافتاً من النور الذي أبصرته على الطرف الآخر من هذه الغابة. في الواقع، وأنت تخوض معركتك الحقيقية هذه، لن تفكر في الألقاب وأوسمة الشرف »الثقافية« التي ستمنح لك في نهاية المعركة، فجل اهتمامك سيكون منصباً على إرادة التغيير والرغبة في إنارة الدرب لمن سيسيرون على هذا الدرب من بعدك أو للمجتمع بشكل خاص والعالم بشكل عام.

أن تكون مثقفاً حقيقياً

كمثقف حقيقي - كما رأينا من نماذج لهم في التاريخ ومن خلال قراءة سير الكتّاب والفلاسفة والفنانين والمثقفين الحقيقيين في المجتمعات السابقة والآنية - فأنت معرّض لكل أنواع الأذى والانهزام، التي قد يمر بها أي قائد عسكري مقبل على حرب للتغيير وليس التدمير كما في حالة الساسة. المثقفون كما قرأنا عنهم تعلموا وقرأوا وأمضوا أعمارهم في الدفاع عن وجهات نظرهم وأفكارهم ورغباتهم الحقيقية في الإصلاح والتنوير البعيدين كل البعد عن البهرجة البراقة والألقاب الرنانة والأوسمة الخداعة. أن تكون مثقفاً يعني أن تحترم ما وصلت إليه من مكانة علمية ورأي تدافع عنه بشكل عقلاني ومنطقي، وإن خالفوك فيه فيظل احترامك لحريتهم في التعبير سلاحك الذي تذود به عنهم قبل نفسك، أن تكون مثقفاً - في أي مجال كان - يعني أن تكون واسع الاطلاع في كافة مجالات الحياة ومختلف العلوم، ولا يقف سقف اطلاعك على علم وتخصص معين. يعني أن تضع نفسك في الصفوف الأولى للدفاع عن الأفكار والقناعات ووسائل التغيير الأنسب للمجتمع الذي تحيا به، وليست تلك المستوردة أو المعلبة

بشكل لا يمكن أن تحشر فيه مجتمعك مع اختلاف تركيبته الثقافية والمعرفية وذاكرته الجمعية وأخلاقه ومعتقداته... إلخ. أن تكون مثقفاً حقيقياً يعني أن تترك حياة الرخاء وكسب الرضا ممن لهم مثل تركيبتك المجتمعية، سواء من أسرتك أو عشيرتك أو قبيلتك أو أصلك وفصلك وانتمائك، وغيرها من البديهيات التي تولد ممسكاً بها، وتتخلى عن كل ذلك مقابل دفاعك عن فكرك ورأيك وقناعاتك، وليس الدفاع فقط، وإنما محاولة التغيير التي تؤمن - وإن خالفك كل من حولك - أو فعلوا بك كما فعلوا مع من قرأنا عنهم في التاريخ، بأنهم نفوا أو هددوا أو سجنوا، أو حتى انتهى بهم المطاف لتجرّع السم بأيديهم دفاعاً عن معتقداتهم، كما فعل سقراط. أن تكون مثقفاً حقيقياً يعني أن تكون شجاعاً وجسوراً، وأن تقدم على التغيير والمناداة بأفكارك والدفاع عنها، حتى وإن كان الثمن خسارتك لمنصب أو مكانة اجتماعية معينة أو نظرة مجتمع ووصمة عار تخشى أن تلاحقك لاختلافك الذي توصلت إليه، وبالتالي تخلفك عمداً عن الحشد. أن تكون مثقفاً حقيقياً يعني أن تكون مناضلاً بالدرجة الأولى، طعنات المجابهة تملأ صدرك، وأقدامك متورمة من السير على جمر الشك، وعقلك يرهقك لأيام وليال بعيداً عن

لذة النوم أو الراحة، لأجل أن تصل إلى معلومة أو قناعة واحدة قد تعود لتمحو إيمانك بها أو تصديقك إياها في صباح اليوم التالي. أن تكون مثقفاً حقيقياً يعني أن تكتب أو تخطب أو تبدع ليس لغرض الشهرة والنشر فقط، وإنما لتريح أفكارك من تخثرها داخل عقلك وتسمم دماءك الثائرة بركود وتعفنها دونما خروجها إلى العالم. أن تكون مثقفاً حقيقياً يعني أن تسلّم عقلك لرياح العلم والأفكار التي تعصف به، وأن تسلّم قلبك لإيمانك الذي تصل إليه في أعماقه فقط، وأن تضع روحك على كف الخطر لنور قد ينقلب في أي لحظة ناراً تحرقك فعلاً ومجازاً، والأهم من ذلك أن تفعل وتقدم وتكتب وتوصل أفكارك بكل الوسائل المتاحة لك، لغاية واحدة فقط، وهي الانتصار لأفكارك وذاتك ورغبتك الحقيقية في التغيير والتنوير الذي لن يبدأ إلا بك، فإن بدأت بالتغيير في نفسك، وتقبل المواجهة حتى وإن جارت عليك، حينها فقط تستحق شرف حمل راية المثقف الحقيقي، حتى وإن كنت لا تنتظرها (وهذا الطبيعي) وحتى وإن لم يقلدوك ألقاباً أو يصنعوا لك تمثالاً - فقد علّمنا التاريخ أن ذاكرة الزمن لا تحفظ ولا تقدر ولا تورث للبشرية أسماءً لمثقفين حقيقين، سوى من استحقوا النضال لأجله وضحوا بالكثير لنيل هذا الشرف.

 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Kuwait